شعار قسم مدونات

فضل السكون في حياة الأطفال

blogs طفلة على مرجيحة

أمٌّ تَصْحَبُ طِفْلَها في نُزهةٍ روتينيةٍ إلى الحديقة، فيلتقط الطفل أنفاسه وتبتهج أساريره بمناسبة هذا الانفراج المُحَبّب. مُفارَقَةُ البنيان في ذاتها عيدٌ مُنْتَظَرٌ للطفل المسكين الذي يَسأمُ ويَكِلُّ من محاصرة الجُدُر وهواء المباني الراكد. وما أن يُطلَق من أسْرِه، ما هي إلاّ لحظات تمرّ إلاّ ويُستَأنَفُ مجدّداً بثُّ المسلسل التعليمي الثرثار، ليُطبِقَ على أنفاسه ويتطفّل عليه مرّةً أخرى. "انظر هذا العصفور"، "انظر إلى تلك الشجرة"، "انظر تلك فراشة"، "التفت هناك لافتة، هل تعلم إلى ما تشير هذه اللافتة؟"، "هل تعلم لماذا تمشي هكذا هذه النملة؟"،" كرّر ورائي هل فهمت؟ أحسنت، نعم ولدٌ شاطر إلخ إلخ إلخ.

سيلٌ جارف من الإرشادات التعليميّة التي تُباغِتُهُ كما لو كانت مقرّراً تعليميّاً موازياً، فليس يكفيه التجنيد الإجباري في المدرسة، لا بدّ من المعلومات، والمزيد منها، لأنّ هذا هو السبيل البديهيّ، نحن في عصر المعلومات! المعلومات هي سلاحنا! العلم نور!

باستثناءِ الآباء والأمّهات الذين يولّون أطفالهم الأدبار سواء أكان ذلك في وقت اللّعب أو في غيره من الأوقات، فينغمسون في عوالمهم البديلة بتمكينٍ مريح ورعايةٍ ملائمةٍ من "الخاطف الذكيّ"، أنيس الجيب وجليس الروح العصريّة، الصديق الوفيّ وافر الحضور، سهل الوصول. 

 

إنّ "الحمّى" التعليمية ما هي إلاّ مظهر من مظاهر منظومة المادّة ودين "العلم" البحت. الفكر الذي لا يعترف إلا بالمنطوق من المعارف. فكل معنىً مهما كان بليغاً، إن لم يُفصَح عنه بالكلام الصريح المباشر لا يكون شيئاً مذكوراً

باستثناء هذه الفئةِ "المُغَيّبَة" وبموازاتها هناك فَئةٌ من المربيين الذين يحسّون بالتقصير إن هم أطلقوا سراح الطفل، يؤرقهم الذنب إن هم تركوه على سجيّته وسمحوا له ولأنفسهم بفسحة من الصمت الغير مبرمج، بفضاءٍ من التأملّ الغير مخطط، بطاقةٍ من الوحدة المحمودة التي يختلي فيها بنفسه فيتعرّف على العالم ويرى قراره المكين فيه. المربيّ المُتَطِفِّل الكلاسيكي يرى في صمته ذنباً، يرى في كل هُنيهةِ سكونٍ فرصةَ تَعَلُّمٍ ضائعة وكِتماناً لمعارف يجب أن يلقيها على مسامع الأطفال كمبلِّغٍ أمين. المربيّ من هذا النوع لديه وسواس "تعليميّ"، يتقمصّه هذا الوسواس تقمّصاً فيغرِّبُه عن نعيم الصمت ويحرمه لذة السكينة والمعرفة المتأتية منها.

إنّ هذه "الحمّى" التعليمية ما هي إلاّ مظهر من مظاهر منظومة المادّة ودين "العلم" البحت. الفكر الذي لا يعترف إلا بالمنطوق من المعارف. فكل معنىً مهما كان بليغاً، إن لم يُفصَح عنه بالكلام الصريح المباشر لا يكون شيئاً مذكوراً. وتباعاً كُل ما لا يقال بالكلام ليس مهمّاً، كلّ ما لا يخضع لقياس المؤشرات الرقمية ليس موجوداً. فقواعد سير هذا النوع من التفكير توجِب علينا تأكيد حضور الأشياء بالتكلّم عنها وتفسيرها وشرحها أما الأمور التي تستعصي على التفسير لعظمة جواهرها ولقصور اللُّغةِ عموماً عن نقل معانيها بأمانة-عملاً بحكمة "إذا اتسع المعنى ضاقت العبارة"- فهي تندثر في غمرة الثرثرة والضوضاء التّي تُظَلِّل هذا الفضاء.

فمشهد الأُمّ التي لا تستطيع الإمساك عن الإرشاد والتعليق إن دلّ على شيء فهو ينمّ عن عدم إدراكها واحترامها لفسحة الطفل، هو تَطَفُّلٌ مزعج على تجربته الشخصيّة لتلّقي العالم من حوله وكأنها تقول له "أنت لا ترى ولا تسمع، أنت قاصرٌ عن إدراك العالم من حولك، أنت لا تعلم شيئاً ولكنني أنا سوف أُعلِّمُك". وهذا أبعد ما يكون عن حقائق الأشياء. قدرة الأطفال على استقراء البيئة من حولهم تفوق بأضعاف ما هي عليه عند الكبار، بل لعلّهم يَرون ويسمعون ما يتعذّر علينا رؤيته من الظواهر والآيات ولكن، لا نفقه تسبيحهم. نحن نحتاج كمربيين اليوم بأن نتنحّى جانباً وأن نصوم عن الكلام ليتسنّى للأطفال بأن يعلّمهم الله من لدّنه دون وسيطٍ أو مترجم. يجب أن نؤمن أنّ صمتهم الكيّس ليس فراغاً.
 

مُعدّات قتل الصمت "الهواتف الحديثة" بما تحويه من تطبيقات مبنيّةٌ في أصلِها على فكرة "الاستثارة المستمرة"، مُقامةٌ على مبدأ الشلال اللامتناهي من المعلومات والأخبار

فالسكينة وطنٌ تسرح فيه الروح، والصمت عبادةٌ لا يعرفها إلا من جنى قطوف طمأنينتها. والحياة إيقاعٌ منظوم من الإخبار والإنصات ولا يستوي أن تكون شهيقاً لا ينتهي من المؤثرات المعلوماتية والتعليميّة. لا بدّ من زفير ٍ يأتي فيصعد ويعيد صناعة الحيّز، ويُعيد مسح اللوح المليء.

وليس الأطفال هم الوحيدون الذين يعانون انكماشا في الوقت الصامت، بل هي آفةٌ تبطش بالكبير قبل الصغير وتتفشّى شكراً "للخواطف الذكيّة" التي قضت على آخر فرد من سلالة السكينة وخطفت آخر لحظة من الهدوء والسلام الراقِد، فمُعدّات قتل الصمت هذه بما تحويه من تطبيقات مبنيّةٌ في أصلِها على فكرة "الاستثارة المستمرة"، مُقامةٌ على مبدأ الشلال اللامتناهي من المعلومات والأخبار، والتي لن تستطيع من الوقوف على رأسها ومجاراتها ومواكبتها مهما فعلت، فهناك دائماً فرصةٌ لأن يفوتك شيء مهمّ، ولذا فأنت دائماً على أهبّة الاستعداد، دائماً متهيئٌ على شرفة الشاشة الصغيرة لتلقّي أسراب عصافير التنبيه المَوْتورة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.