شعار قسم مدونات

صداقة الأمكنة

blogs مفتاح

من الناحية العلمية والفلسفية فإن تجارب الإنسان في هذا العالم غير ممكنة خارج مجموعة من الأطر القبلية التي تحدّها، وأهمها الزمان والمكان، فكل تجربة من تجارب الإنسان هي تجربة في مكان محدد وفي زمن محدد، ولا يمكننا تصور تجارب إنسانية خارج الزمان والمكان، لذلك أردنا أن نبين في هذا النص دلالة هذا الارتباط بين الإنسان والأمكنة عاطفيا ووجوديا، وربما نعود لعلاقة الإنسان والزمن في نص آخر.

فالمكان الذي نقصده هنا هو حيز جغرافي له حدود واضحة وسمات جغرافية وعمرانية تميزه، وعموما هو "المسرح" الذي تجري فوقه أحداث كثيرة يصنعها البشر في الغالب، لذلك يكون المكان أحد مكونات وأركان الوجود في هذا العالم إلى جانب عنصر الزمن والشخصيات، فهذه العناصر الثلاثة هي أساس روايتنا وحكايتنا في الكون، فنحن الشخصيات التي تتحرك في مكان وزمان محددين ومعلومين، وفي هذا السياق يقول "ديفيد توغل: "لا يمكن أن نتخيل أفكارا أو قصصا خارج إطار مكاني واضح، وإذا لم نعرف المكان المشار إليه في هذه القصص فإننا نشكل مكانا مألوفا لنا ونحرك فيه الشخصيات"، غير أنّ المكان ليس مجرد تضاريس وحجارة وجغرافيا، إنّه شيء أشبه بالكائن، نحبه ونكرهه، نهجره ونحنّ إليه، يحتضننا ويقسو على البعض ليدفعهم إلى الهجران والرحيل بعيدا نحو أمكنة أخرى تكون أقل ألفة وحميمية، وهكذا يظهر التفاضل الموجود بين الأمكنة.
 

في الكتابات الروائية تجد الروائي يصنع له مدنا وأمكنة من خياله على مقاس الحلم بمدن فاضلة، ويقدمها للقارئ في صورة أسطورية يتعلق بها القارئ نفسه لما أضافته اللغة الروائية، ذات الطبيعة البلاغية، من سحر وجمال للمكان

فكل واحد منّا يعتبر الوطن الذي ولد ونشأ فيه هو أجمل الأمكنة الموجودة في هذا العالم، وكل شخص داخل نفس الوطن يعتبر أنّ المدينة أو البلدة التي نشأ وولد فيها هي أفضل البقاع والأمكنة في هذا الوطن وفي هذا العالم أيضا، حتى أننا نجد الإنسان "شوفينيا" ومتعصبا لمكان ولادته ونشأته بشكل غير مفهوم، وكل واحد يتحدث عن منطقته كأنها الجنة!، لدرجة يبدو معها هذا الارتباط بين الإنسان والمكان ارتباطا وجوديا وفلسفيا يصعب فهمه أو تفسيره أحيانا، سواء عند الإنسان البسيط أو حتى عند النخبة من المثقفين والكتاب والشعراء، وإن كان التعلق بالمكان (الوطن/الموطن) والاعتزاز به هو مجرد وسيلة لربح المزيد من المتعاطفين والجماهير عند السياسيين والمنتخبين.

ففي الكتابات الروائية تجد الروائي يصنع له مدنا وأمكنة من خياله على مقاس الحلم بمدن فاضلة، ويقدمها للقارئ في صورة أسطورية يتعلق بها القارئ نفسه لما أضافته اللغة الروائية، ذات الطبيعة البلاغية، من سحر وجمال للمكان، تلاحظ ذلك في كل الروايات سواء العالمية منها أو العربية، وفي الشعر أيضا يسكن الوطن قلب القصيدة ولا يغادرها، وتمتزج المرأة بالمدينة والوطن ليتجمل الكل بإكليل الحب ويتعلق القارئ بأمكنة من خيال الشاعر وأحلامه وذكرياته أيضا.

فقد خلّد أمير الشعراء "أحمد شوقي" "جبل التوباد" كمكان لعشق الصبا والطفولة وجعلت منه القصيدة مكانا سحريا ورمزا للعشق والعشّاق ليس بين القبائل العربية فقط بل امتد صيته إلى الهند وبلاد فارس وغيرها، رغم أنه في الواقع قمّة من خراب وحجر في فيافي بعيدة، ممّا يعني أنّ المكان لا يكتسب سحره وقدسيته من تضاريسه أو جماله الطبيعي والجغرافي بل من أناسه الذين صنعوا به ذكرياتهم وغزلوها بالحب بين شعاب الوقت الذي يفيض عن يومياتهم وسنواتهم، حتى تتحول الأمكنة إلى مزارات ودور عبادة يعود إليها المغتربين ليقبلوا ترابها ويداوي به المغترب ما علق بقلبه من غمّ في البعد والاغتراب، وهذا حال الكثير من الكتاب والشعراء والمفكرين الذين فرضت عليهم ظروف مختلفة الابتعاد عن موطنهم الأصلي، فهذا الإمام الشافعي رحمه الله يعبر عن حبه وحنينه لمدينة غزّة بأبيات شعرية أصبحت نموذجا للتعبير عن شوق المحب لموطنه، حيث يقول الإمام: "وإني لمشتاق إلى أرض غزّة…وإن خانني بعد التفرق كتماني… سقى الله أرضا لو ظفرت بترابها…كحلت به من شدة الشوق أجفاني"، وهذه أسمى مراتب التعلّق بالوطن والأرض والمكان.

وأوّل مكان يتعلق به الإنسان ويرتبط به عاطفيا ووجوديا هو المنزل الذي نشأ وتربى فيه، والمنزل، كما يصفه الفيلسوف الفرنسي "غاستون باشلار"، هو "المكان الذي مارسنا فيه أحلام اليقظة وتشكل فيه خيالنا ومن غيره يصبح الإنسان كائنا مفتتا" ويضيف قائلا: "البيت هو ركننا في هذا العالم!"، ولهذا يتعلق الإنسان بمكان الولادة والطفولة ويعود إليه باستمرار حتى لو فرضت عليه ظروف الحياة الخروج منه وهجرانه لأنه جزء أساسي من بنيتنا النفسية ونقطتنا المرجعية وجوديا في هذا العالم.
 

تمارس الأمكنة سحرها على الإنسان وتجبره على التغزل بها أو رثائها، في قصائده وكتاباته، حتى إنّي أكاد أقول أنّ جل ما كتبه الإنسان؛ كتبه في رثاء أو التغزل بمدن وأمكنة معينة

وقد كان هذا حال الكاتب المغربي الشهير محمد شكري مع مدينة طنجة؛ كأفضل الأماكن والمدن التي أحبها وتعلق بها، كما يؤكد عبد اللطيف بن يحيى الإذاعي والصحفي المغربي الشهير في برنامج "المشّاء" إذ يقول "لم أرى كاتبا تعلق بمدينته كما تعلق شكري بمدينة طنجة"، وكما يظهر ذلك في كتاباته ورواياته، فقد ترجم شكري هذا التعلق وهذا الحب في رواياته الكثيرة خصوصا في روايته العالمية "الخبز الحافي" التي أسر بين دفتيها دروب طنجة العتيقة ومقاهيها الشعبية وحواريها القديمة وربط الواقعي بالأسطوري بلغة روائية أنيقة، وغزل – بحب و"عنف" في آن واحد- حكايات شبيهة بالأساطير عن هذه المدينة، وتلك طبيعة طنجة "العصيّة على المألوف".

 
وهكذا تمارس الأمكنة سحرها على الإنسان وتجبره على التغزل بها أو رثائها، في قصائده وكتاباته، حتى إنّي أكاد أقول أنّ جل ما كتبه الإنسان؛ كتبه في رثاء أو التغزل بمدن وأمكنة معينة، فما كتبه العرب والمسلمين عن قصور غرناطة ومدن الأندلس يشكل جزءا كبيرا من المكتبة العربية في القرون الأخيرة، إنها مأساة فقداننا لنقطتنا المرجعية في هذا العالم، إنها مأساة ضياع مكانك الأول وموطنك الذي تعلم أنك لن تعود إليه ولم يعد بيتك وركنك الذي تطل منه على العالم، كفطام حقيقي ما حدث للمسلمين عندما فقدوا الأندلس، وبقي لهم حق البكاء على ذلك المكان في قصائد الرثاء الطويلة…وهو حال أبناء فلسطين اليوم الذين فرض عليهم الاحتلال الإسرائيلي أن يعيشوا "خارج المكان" كما عنون إدوارد سعيد مذكراته الشهيرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.