شعار قسم مدونات

دكان العائلة

blogs - موظفين شباب
عندما باشرت وكثيرون من جيلي؛ عملنا في القطاع الخاص، واجهتنا كثير من التحديات والأفكار المغلوطة، ومن أكثر الأفكار تردداً على مسامعنا كانت فكرة الأمان الوظيفي. وتعلمنا مع الممارسة أن الأمان المجاني وهم زرع في أذهان الشباب دونما تمحيص واختبار حقيقيين، وعلمنا بالتجربة أن الأمان الحقيقي هو ما تصنعه أنت لنفسك ولا يوجد من يعطيك هذا الأمان بلا مقابل. فعلى قدر ما تسمح للتجربة بأن تصقل منك وفيك، على قدر ما ترتفع مهنياً ويصبح هذا الأمان هو من ينشدك ويخطب ودك لا العكس.

وكثيرة هي الأوهام التي تعترض الساعين في سوق العمل، وبعض هذه الأوهام راسخ لا يتزعزع أو كما وصفه الأستاذ سعيد تقي الدين "بغل كبير"، وكم من بغل متيبس صلب متزمت يسقط في إدراكنا العام فيأخذ صفة الرأي السديد وهو في حقيقته عن السداد بعيد.

قالوا إن الأجنبي لن يعطيكم أو يعلمكم شيئا، ووجدنا أن الأجنبي وابن البلد في هذا الأمر سيان، فكل من يبخل بعلمه فهو إما جاهل ليس لديه ما يعلمك إياه، فيلجأ إلى حيلة من يترفع بعلمه عمن سواه، وإما رجل يعلم بعض الشيء لكنه غير متمرس به ولا يعلم من أسراره وخباياه الكثير، يعلم بعضه ويجهل أكثره، لذا فهو يخشى على هذا البعض من أن يُعلم ويذاع فتصبح بضاعته رخيصة وعلمه بها مشاع لا يدفع عنه ولا يترك له. لذا فهو يبخل عن قليل ما عنده.

أما بحور العلم الحقيقة ـــ سواء من الأجانب أو من أبناء البلد ـــ فعلمهم غزير لا ينضب وفكرهم عميق لا قرار له وآفاقهم واسعة ليس لها أول وليس لها آخر. ولأن البحر ماء مشاع لا يسأل ولا يخشى السؤال تجدهم في هذا (دونما قصد إلى ذلك) سواء، يعطونك مما عندهم عطاء من لا يخشى عجز، والبحر كريم لا يسأل عما أعطى، يبسط يديه لمن يريد ولمن يستطيع، بسطاء في مظهرهم خبراء في مخبرهم، خذ منهم قدر ما تستطيع فإن عجزت فشأنك. الأستاذ عبد القيوم كان أحد هؤلاء البحور التي أحمد الله أني التقيت بها وخضت فيها ونهلت منها عند حداثة عهدي بالقطاع الخاص.

الله تعالى يعلم بأن موسى يعلم بأنه تعالى يعلم.. ومع ذلك لم يقل موسى عصايا.. بل استرسل في حديث طويل يبيّن ما هي والغرض منها ولم تستخدم.. والله تعالى بكل عزته.. وهو العزيز.. لم يقل له.. اختصر يا موسى.

في القطاع الخاص تمثل الشركات العائلية أكثر من 90 % من رأسمال هذا القطاع، ولهذه الشركات ممارسات عائلية لم تتخلص منها منذ أن كانت دكان العائلة. وفي الدكان كما في الشركة يعمل الأب والأبناء والأخ وأبناء الأخ وأبناء البنت وبقية أفراد العائلة، فلا توجد حدود فاصلة بين الملكية والإدارة، وهناك الرجل الكبير والأولاد الصغار، وهذا من عيالنا وهذا من عيال الناس. الكبير هو الأول وهو الشيخ (ليس بالمعنى الديني) الفهيم وله في كل أمر رأي سديد واجب الاتباع، حكيم مهما رأيته سخيفاً، ولتفهم أنت من طبقة الموظفين عيال الناس أنه مهما بلغت مهنية ومعرفة وحنكة؛ تظل أفكارك ومرتبتك ضمن حدود ما يسمح أو لا يسمح به الرجل الكبير. فإن قبلت بذلك عشت سعيداً وإن لم تقبل سيأتيك من يرمي وجهك بحكمة "من حكم في ماله ما ظلم" رغم أن كثيرين ظلموا بهذه الحكمة.

في هذه الشركات حيث الرجل الكبير الذي يتمتع بكافة الصلاحيات -بلا مسؤوليات- يكره النقاش والاعتراض والتغيير ويميل إلى الاطمئنان للوضع الراهن، كثير النصح، ولنصائحه -مهما سخفت- صفة الإلزام، ويرى في أي نقاش محاولة من الصغير للتملص من تنفيذ المطلوب. يحب التورية ويصبغ عباراته وتوجيهاته بمعاني مبهمة (وله في ذلك حكمة). ويطور مع الوقت عبارات أو لوازم لفظية يفهمها العارفون. فعبارات مثل "اختصر"، تأتي بمعنى "لأ" بدون أسباب، وجملة "أعمل كذا وبعدين نشوف" كفيلة بإنهاء أي نقاش. والصغير مهما رجح عقله أو كبر سنه أو بلغ علمه وحكمته يظل صغيراً. فهو مأمور لا يناقش، وإن ناقش فنقاشه سوء أدب وحماسته طيش شباب. ليس له صلاحية في شيء، مسؤول عن أي فشل لا لشيء فقط لأنه صغير. وهكذا تعامل العائلة أولادها وهكذا تعامل موظفيها من عيال الناس.

أذكر في أحد المرات كلفت بإعداد مبادرة لتطوير طريقة عمل ما، وليتم هذا الأمر كان لا بد من صلاحية وموازنة للتنفيذ والتي تعني موافقة الرجل الكبير، جُهز العرض بكافة الجوانب وتركته لأستاذي (عبد القيوم)، ولأنه كان يعلم كرهي لهذه اللقاءات، فحضر لمكتبي شخصياً يرجوني أن أقوم بمعيته بتقديم العرض، أذكر أني تكدرت يومها وكرهت الذهاب وقلت له "مهما كانت الفكرة جيدة فإن صاحبنا إن لم يفهم سوف يلغي الموضوع ويصيبنا بنصائحه أو الحكايات السخيفة التي تؤكد حكمته وأهليته القيادية منذ قبل أن يولد حتى"، ولكن ذهبت بعد وعد بأن هذا لن يحدث، وإن حدث ستكون آخر مرة تحدث فيها. وأشهد للأستاذ أنه ما كذب يوماً أبداً.

نقيس الرجال بعلمها ومنطقها وجلدها، ولا الأموال ولا الثروات تصنع الرجال ولا تأتي بالمكانة، وإن أوحى لكم بعضاً من فقرائنا بغير ذلك فلا تحملوا علينا جميعاً بتعس بعضنا أو بسوء تصرفه.

بعد أول دقيقة قرر الرجل الكبير أنه لا يريد أن يفهم ولا يريد المبادرة ولا يريد أي شيء، فأطلق عبارته المشهورة باردة في وجه الأستاذ "اختصر"، في نفسي اختلطت مشاعري بين الشفقة على الأستاذ والشماتة المهذبة ووعدت نفسي عندما أعود للمكتب أن أول شيء سأفعله هو أن أعود بالكرسي إلى الوراء وأبتسم ابتسامة شامته أشد ما تكون الشماتة وأقول للأستاذ "ألم أقل لك.. لكنك لم تسمع كلامي"، صحوت من أحلام يقظتي على تجاهل الأستاذ للعبارة وقراره بإتمام الموضوع للآخر، فجاءته العبارة التالية أبرد من الأولى "اختصر يا أخي"، وتجاهلها مرة أخرى، فنزلت الثالثة كالصاعقة صوتاً وانفعالاً "أنت مش سامعني.. مش قلت لك اختصر يا أخي"، وبهدوئه المعتاد وضع الأستاذ القلم وقال بلهجة سودانية رصينة "إن الله تعالى ذاته عندما سأل رسوله موسى.. وما تلك بيمينك يا موسى.. لم يسأل سؤال جاهل أبداً، بل سأل وهو يعلم ما هي وما سيقوله موسى.. فهو العليم.. وموسى يعلم بأن الله يعلم.. والله تعالى يعلم بأن موسى يعلم بأنه تعالى يعلم.. ومع ذلك لم يقل موسى عصايا ساكت.. بل استرسل في حديث طويل يبيّن ما هي والغرض منها ولم تستخدم.. والله تعالى بكل عزته.. وهو العزيز.. لم يقل له.. اختصر يا موسى".

في الحقيقة أن ذاك الرجل الكبير كان الأتعس حظاً في سلسلة طويلة سبقته من الرجال الكبار، وأشهد أنه تعلم يومها درساً قاسياً في الكياسة فأعاد النظر وترك عباراته المألوفة إلا قليلا. وأقول له ولهم ولكل رجل يظن أنه كبير.. نحن الموظفون أبناء الموظفين لسنا أبناؤكم ولستم آباءنا، نحن نعمل معكم لا عندكم، ونحن في هذا المركب لأن لدينا من العلم والنشاط والأمانة ما يؤهلنا لذلك، نحن نعمل معكم بإرادة حرة ونترككم أيضاً بإرادة حرة، ليس في فقرنا عيب نخجل منه ولا في أموالكم ما يزين أو يشين. نقيس الرجال بعلمها ومنطقها وجلدها، ولا الأموال ولا الثروات تصنع الرجال ولا تأتي بالمكانة، وإن أوحى لكم بعضاً من فقرائنا بغير ذلك فلا تحملوا علينا جميعاً بتعس بعضنا أو بسوء تصرفه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.