شعار قسم مدونات

حياة تختصرها ورقة

blogs - CV
ما بين فصل التخرج والمشاعر الجياشة.. وما بين زحمة تهاني الأهل والأصدقاء، وبعدَ انتهاء الاحتفالات والزغاريت التي تعالت في أنحاء الكلية ووصلت حتى زوايا بيوتنا وجدتُ نفسي قد انتقلت من كوني طالبة بكالوريوس همها الأكبر رفع التقدير الجامعي وجلسات الصديقات وتعديل جدول المحاضرات إلى مهندسة مسؤولة أمام النقابة والمجتمع ومُطالبة بالانتقال إلى سوق العمل.
 
وأولى الخطوات في هذه المرحلة الانتقالية كانت إعداد سيرة ذاتية أو "CV" كما هو متعارف عليه في أوساط العمل، سيرة ذاتية تثبت لأصحاب العمل أنني إنسانة مؤهلة علمياً وسوية نفسياً وتستحق الحصول على عمل تكدُ بهِ من أول الصباح حتى آخر النهار.

وبالرغم من توافر عشرات المواقع التي تقوم بالمساعدة في عمل السيرة الذاتية وتوافر مئات الأشكال والتنسيقات التي يمكن اختيارها، إلا أنني فضلت أن أقوم بعمل سيرتي الذاتية لوحدي اعتماداً على خبراتي السابقة في بعض المواد الجامعية وبعض المعلومات التي قرأتها على شبكة الإنترنت ومن منطلق حس الأمانة الزائد الذي أشعر به اتجاه عملي "الذي لَم أحصل عليه بعد" .

سأختصر 23 عاماُ مليئة بالحزن والفرح والخيبة والانجاز والنجاح والفشل بورقة واحدة تبدأ بإسمي وتنتهي بقائمة من المهارات التي "يُقال" أنها يجب أن توضع في السيرة الذاتية.

وبدأت بطباعة اسمي ومعلومات الاتصال بي ومن ثُمَ توقفت.. توقفت وحدقتُ في تلك الصفحة البيضاء الوحيدة، صفحة واحدة فقط "وهذا ما يُنصح به للخريجين الجدد" فلا يجب أن تكون السيرة الذاتية أكثر من صفحة واحدة.. صفحة واحدة سأختصرُ فيها 23 عاماً من حياتي.

كيفَ أخبرهم عن شهادة التقدير التي كانَ من المفترض أن أستلمها أنا لكوني "الأولى على الصف" وأخذتها ابنة المعلمة الشقية بدلاً عني في الصف الخامس والتي جعلتني أفقدُ إيماني بالعدل في هذه الدنيا. وكيفَ أخبرهم عن عدم قدرتي على الاشتراك بمسابقة الكتابة وذلك لعدَم اكتراث المعلمة بالأمر وعدم إخباري بالمواعيد النهائية للتسليم وأنا في الصف الثامن وكيفَ أن هذا الأمر جعلني أقوم بعمل الأمور بنفسي ولا أوكلها لأحدٍ غيري. عن فوزي بجائزة الطالبة المثالية في الصف العاشر وتنمية حس الانضباط في داخلي.

كيفَ أخبرهم عن ليالي البكاء في أيام الثانوية العامة والدراسة التي تمتد حتى يبدأ الديك في الصياح، عن سهر والدتي إلى جانبي وانتظارنا النتائج والشوق والخوف يغلي في داخلنا كبركانٍ يوشك على الإنفجار. كيفَ أكتب في السيرة الذاتي عن خيبة أملي الشديدة في عدم قدرتي على دراسة التخصص الذي لطالما حلمتُ به، وعن بكائي الشديد في ليلة ظهور نتائج القبول الموحد عندما اكتشفت أني سأقضي ما تبقى في حياتي في دراسة تخصص لا أعلمُ عنهُ شيئاً.

كيفَ أكتب عن أول يوم جامعي لي، وعن جلوسي على مقعد أمام "المشاغل الهندسية" وبكائي، عن أول علامة "راسب" حصلتُ عليها وعن أول علامة كاملة جعلتني أقفزُ فرحاً في وسط جامعة.. أول صديقة تعرفتُ عليها وأول غداء لنا في الكفتيريا.. كيفَ أكتب عن أول نشاط في الجامعة وما تركه في داخلي من حب واشتياق لأسوارها.. وكيفَ أستطيع التعبير عن أول عمل تطوعي قمتُ به وزرعَ في داخلي حباُ أبدياً لهذا المجال.

كيفَ أكتب عن أول يوم جامعي لي، وعن جلوسي على مقعد أمام "المشاغل الهندسية" وبكائي، عن أول علامة "راسب" حصلتُ عليها وعن أول علامة كاملة جعلتني أقفزُ فرحاً.

عن الـ 159 ساعة دراسية والتي تختصر بمعدل تراكمي أقدمه لهم، كيفَ أكتب عن زملائي وزميلاتي وما تركوه في داخلي من دروس وعبر.. عن أساتذتي الذين زرعوا في داخل قلبي حباً كبيراً للدراسة وعلماُ لا يوجد في أي مكان.. عن الشخصيات الرائعة التي قابلتها في حياتي وعن ما قدمتهُ لي وما غيرته في شخصيتي وطموحاتي وأحلامي.. عن الدورات التدريبية التي انتهت بشهادة ورقية ولكنها كانت تطوي داخلها آلاف المشاعر وعشرات الصداقات التي استمرت لسنوات..

عن مشروع التخرج الذي بقيتُ مستيقظة لأجله يومين متتاليين، والذي كانَ يشكل شغلي الشاغل طيلة فصل التخرج.. سأختصرهُ بعنوان ميت بلا حياة أو مشاعر.. بعنوان لا يحمل فرحة يوم مناقشة المشروع.. ولا يعبرعن دموع الأصدقاء وزغروتة الأهل والبسمات التي ارتسمت على وجوهنا..

سأختصر 23 عاماُ مليئة بالحزن والفرح والخيبة والانجاز والنجاح والفشل بورقة واحدة تبدأ بإسمي وتنتهي بقائمة من المهارات التي "يُقال" أنها يجب أن توضع في السيرة الذاتية لتجذب أصحاب العمل.. حياة كاملة تختصرها ورقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.