شعار قسم مدونات

السيادة والحاكميّة في الأنظمة الديمقراطيّة

blogs - house of commons
العقد الاجتماعي هو القانون الناظم للحياة العامة وهو نتيجة "الإرادة العامة" وليس الباعث عليها، وبهذا المعنى فإن "سيادة الشعب" وممارسة الإرادة العامة يختص بتقرير المصالح ومصدر السلطة، فكما ارتبط تقرير المصلحة والشرع في عصر الظلام بالكنيسة والملوك ارتبطت إرادة الشعب _وفق "سيادة الشعب" _ بتقرير الشعب للمصالح والسلطات.

وهذا هو المراد من "سيادة الشعب" في كل نظام يحكم الشعب نفسه بنفسه، ولو لم يكن هذا هو المراد من "سيادة الشعب" لما عزلوا الدين وسلطة الملوك عن الحياة والدولة ولما جعلوا الدعوة إلى الديمقراطية في بلاد المسلمين جزء من حملتهم لعزل الإسلام عن الحكم. ولا يمكن فصل الديمقراطية و "سيادة الشعب" عن مسألة "الحاكمية"؛ لأن حكم الشعب يعني رعاية مصالح الشعب من قبل الشعب؛ ورعاية المصالح توجب _بمقتضى سيادة الشعب _ حق الشعب في ممارسة الإرادة في تقرير المصالح والحكم على الأفعال والأشياء وهذه مسألة حاكمية لا مسألة حكم .

الخلاصة: إن ممارسة الإرادة العامة إما أن تكون حرة مطلقة ويكون فيها الشعب رباً أو تكون مقيدة ويكون فيها الشعب عبداً؛ ولن يكون الشعب عبدا لله وهو رب في التشريع.

ولهذا نجد الحكام في البلاد الديمقراطية يرجعون في المصالح الكبرى للاستفتاء الشعبي كقضية البريكست التي قادها كاميرون وأكدتها تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا قبل يومين في قولها: "دعونا نصوت غدا على إجراء انتخابات، ونضع خططنا قدما من أجل الخروج من أوروبا، وبرامجنا البديلة للحكومة، وعلى الشعب أن يقرر"، وهكذا فهم أردوغان الديموقراطية عندما صرح بأن من يقرر بشأن عقوبة الإعدام والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي هو الشعب.

وكذا زعم السيسي في انقلابه على مرسي حينما قال "الشعب يأمرني ويُفوضني" وتحت هذا العنوان طرح مرسي إقرار الدستور للاستفتاء الشعبي وتنازل الغنوشي عن الحكم للعلمانيين. فحاكمية الشعب وتقرير الإنسان للمصالح يقع في قلب معادلة الحكم والحق وحرية الإرادة باعتبار أن الإرادة العامة هي بديل إرادة الخاصة والتفويض الإلهي في تقرير نظام الحكم وتقرير المصالح. وفكرة "التفويض الإلهي" التي تم استبدال "سيادة الشعب" بها هي فكرة تستند إلى أساس فلسفي وآخر ديني.

أما الأساس الفلسفي فهو "نظرية الفيض" لأفلوطين، ومفادها أن الفلاسفة هم فيض من نور الله وهم خير البشر بمعية الأنبياء والملوك، وأما الأساس الديني فهو المزاعم الكنسية التي تعطي الملوك حق القوامة على المجتمع باعتبار "الأبوة" أي أبوة آدم ومسؤوليته الرعوية على أبنائه ومن خلالها تم استعباد الشعوب، وفي هذا السياق نقض جان جاك روسو "حق الاستعباد" المزعوم ونادى ب"سيادة الشعب" وما تستبطنه من حاكمية الإنسان وتقريره للمصالح سواء صرّح روسو بذلك أو صرح بخلافه.

لأن حاكمية الشعب وتقرير المصالح تُفهم بقرينة الحال البارزة في التطبيق وبخاصة أن روسو إنما يتحدث عن وجه معين في ممارسة الإرادة وهو تقرير الشعب للمصالح. وعليه فإن مفهوم "سيادة الشعب" وممارسة الإرادة العامة عند الغرب ليس مجردًا أو منسلخاً عن تقرير الشعب للمصالح والقوانين؛ لأن سيادة الشعب وممارسة الإرادة تقوم على "الحق" وتُمارس بالحريات.

فإذا سُلب الشعب حقه في تقرير مصالحه تنعدم سيادته، وإذا مارس إرادته في تقرير المصالح يتناقض مع الإسلام. وخلاصة القول: إن ممارسة الإرادة العامة إما أن تكون حرة مطلقة ويكون فيها الشعب رباً أو تكون مقيدة ويكون فيها الشعب عبداً؛ ولن يكون الشعب عبدا لله وهو رب في التشريع؛ لأن الله وصف المشرعين بالأرباب.

إن مفهوم "سيادة الشعب" وممارسة الإرادة العامة عند الغرب ليس مجردًا أو منسلخاً عن تقرير الشعب للمصالح والقوانين؛ لأن سيادة الشعب وممارسة الإرادة تقوم على "الحق" وتُمارس بالحريات.

إن ممارسة الإرادة في الديمقراطية مقيد بحاكمية الشعب وفي الإسلام مقيد بالأحكام الشرعية ولا يمكن التجسير بينهما؛ لأن الشرع الإسلامي قد نهى عن تسيير الإرادة وفق الأهواء في كل فعل (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) الجاثية: (18)، وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة هو بناء إرادة الشعب من أجل استبدال شريعتهم بشريعة الله بعد أن رفض تسلم الحكم في مكة على غير الإسلام وأبى أن يتخذ من سلطان الكفر منصة أو مرحلة نحو تطبيق الشريعة برغم تنازل الأغلبية الكافرة له وبرغم ما يُمثله ذلك من فرصة لامتلاك القوة وتحقيق "شرط الاستطاعة".

وفي هذا الخصوص؛ يرفض الإسلام أن يُترك أمر الدين وتطبيق الشريعة لما يصفونه ب "سنة التدافع" وحرية الإرادة ويُوجِب على المسلمين تسويد الشريعة؛ لأن الخضوع لأوامر الله ونواهيه غير التدافع بشأن قبول العقيدة الإسلامية أو رفضها. وسواء تعلق التدافع بالعقيدة أو بالشريعة فلا مكان له في أمة تعتنق الإسلام، ومن يحيل مسألة تطبيق الشرع على "سنة التدافع" بذريعة التنوع الثقافي المجتمعي إنما يُضل المسلمين ويتهرب من الواجب الشرعي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.