شعار قسم مدونات

الآن.. تذكرتُ من أنا

Blogs - Morocco
ذات يوم؛ دار الحوار بين الشباب في الجامعة عن الهوية، وبدأ كل واحد يدلي بدلوه في الموضوع، وكنت من بين الحاضرين بينهم، أسمع بتمعن كبير لمداخلاتهم، وقبل أن يصلني الدور في النقاش، جاءني طارئ معين، اعتذرت لهم قبل أن أنصرف، وفي الطريق إلى الحي الجامعي الذي يسكن فيه الطلبة، بدأت الأفكار والخواطر تجول في مخيلتي عن ماهية الهوية وكينونتها، فقمت بكتابة كل ما جادت به قريحتي، وأنا أستحضر ذكريات ذاك اليوم بجلاء واضح، رأيت أن أشاركها بسرور مع الطلبة الذين حضروا اللقاء، وأن أنشرها وفاءا لعهد قطعته معهم، بضرورة مشاركتهم النقاش بمداخلة لي. جاء في نصها:
 
مداخلتي
دائما ما أعتبر الهوية، ذاك اللباس الذي يقي من الآخر، يقي الإنسان من رياح الوافدين الجدد، كما يحمي التاريخ والحضارة والأعراف والتقاليد وهلم جرا. من التغيير، من التحريف، والوقوع في التقليد والانسلاخ التام. الهوية واجهة وصورة لكل فرد، لكل وطن، لكل أرض، فالأرض والإنسان يشتركان في قواسم متعددة، علاقة متجانسة، ورابطة قوية، كتلك التي تكون عادة بين الأم وابنها، بل الأرض أم للإنسان، لكن إلى جانب ذلك كله توجد نقطة أخرى، يشتركان فيها، هي الهوية، فكما أن لكل إنسان هوية، كذلك الأرض عندها واحدة.

أدخل البيت كما الناس، أطلب النجدة من جلبابي، فهو الوحيد الذي يفهمني، فرغم أنك تستغله وقت الحاجة فقط، ثم تطرحه في باقي الأوقات، إلا أنه يبقى وفيا، كما غير بني الإنسان.

هي ذلك الفاصل بين الأنا والآخر، كما في مخيلة الفلاسفة، هي عصارة تجربة حياة، ورحلة طويلة لكن محدودة، إن اعتبرنا أن الهوية جزء من الحضارة أو العكس، أفيدوني! دائما ما يحكي لي جدي بارك الله في عمره، كيف أن هوية الأنا والآخر حصل بينهما سوء تفاهم هناك في الجبال المنسية، وكيف أن اللباس فعل فعلته، وحصنهم رغم كل شيء من الآخر الوافد، بل كانت لهم كجرعة، لمطاردة هوية الآخر، وجعله أضحوكة السلاح والعتاد.

تخيلوا معي لو لم نكن نهتم لأمرها، نحفظها، ندافع عنها، نتوارثها جيل بعد جيل، هل كان جدي سيحكي لي هذه البطولات، علني أنام من سحر كثرة الأحداث واللقطات، ليخلد هو الآخر إلى النوم في النهاية! أنت الهوية، والهوية أنت، لا تستطيع بأي حال من الأحوال التملص منها، أو أن تفكر في التخلي عنها يوما، لأنها جزء منك، بل أنت كلك، هي بمثابة عضو في جسدك، فهل تستطيع أن تسامح فيه مهما كانت الظروف، هي بمثابة الشريان الذي ينقل الدم إلى القلب، فيضخ فيه معنى للحياة، للماضي، للمستقبل، وبينهما الحاضر الشاهد عليك، أتكون برا ببعضك أم تعصيه وتنهره.

الهوية إن فرطت في جنبها، عاملتك بالمثل، هكذا هي الحياة، وهكذا يعامل من فيها، بالمثل! حتى الله عز وجل لما خلق الإنسان، لم يخلقه على شكل قوالب معينة، كتلك آل قوالب السكر المغلفة بغلاف أزرق من أيام الاستعمار، بل خلق ونوّع في الجنس، في اللون، في الشكل، وفي الاختلاف رحمة.

كيف يطالب الناسَ اليوم أحدَهم قائلا: " اتركوا ذواتكم، كيانكم، هويتكم، وها ذاتي وكياني وحتى هويتي تسعكم"؟ المهم أن تنصهر في شكل واحد، كما في الشعارات النازية "الحزب الواحد"، وغيرها كثير.
التنوع والتعدد من الأشياء التي تميز الأرض عن نظيراتها، زحل، المشتري… حتى القمر! وإن كان يضرب به المثل في الجمال والضياء فهو غبن فقط.

كيف نتصور الحياة بدون كل هذا الذي ذكرناه، كيف سيحلو لنا المقام؟ لماذا لا نكون مثل ذلك البحر الذي ضرب الله به المثل؟ بينهما برزخ لا يبغيان، رغم اختلافهما، في اللون، الطعم، الفائدة ربما، ورغم التقائهما وتواجدهما في ذات المكان الواحد، إلا أنهما متعايشان مع بعضهما، لم يفكر أي واحد منهم ولو مرة واحدة في احتواء الآخر، وبالتالي إلغاء التنوع، والاختلاف.

لم يفكر أي واحد منهم في نفي الآخر والتهجم عليه، كما قد يفعل البعض بمجرد أن تختلفا في الرأي، فما بالك في الفكرة، في الهوية. كانت فكرة كل واحد منهما، أن كل واحد يتواجد في مكانه المحدد، كل يسر لما خلق له، فلا داعي لصراع لا يبقي ولا يذر، فكم هي الحياة برمتها إن هي إلا كلمح البصر، حتى نتنازع فيها حتى في الهوية.

كيف يطالب الناسَ اليوم أحدَهم قائلا: " اتركوا ذواتكم، كيانكم، هويتكم، وها ذاتي وكياني وحتى هويتي تسعكم"؟ المهم أن تنصهر في شكل واحد، كما في الشعارات النازية "الحزب الواحد"!

الذي ينسلخ من هويته، كتلك الحرباء التي تتلون لكل غصن وطئته بقدميها في الغابة الكثيفة بالألوان والأشكال، فتتقلب بين لون ولون، رغم أنها عندما تغير لونها فهي بذلك تقر بالمبدأ. الوحدانية لله وحده، وما بقي فالأصل فيه التعدد والاختلاف. دائما ما يفطن لي أصدقائي ممن حولي، عن تغير طرأ علي، دائما ما يبادرونني بالسؤال: ما حصل لك أراك اليوم في أفضل حال وسرور، هل حصل شيء ليس في علمنا؟

حالي كأحوال الطقس، مرة مشمس، ومرة غائم، ومرة أخرى ممطر، وعند المطر تشرق كل الزهور، تخرج من سباتها العميق، كما حالي عندما تمطر السماء. أتذكر جيدا ذلك الجلباب الصوفي الذي تغزله لي أمي بيديها، وتحرص أشد الحرص أن يبدوا جميلا، مناسبا، تفتخر بصنعة يدها، كما أنا، فكلنا قد تربينا وصنعنا بين يديها المباركة، على الوقار، الجمال، ثم مناسبة الحال.

أحس في بعض الأحيان بأخوة تجاهه، فهو يلازمني طيلة اليوم، يهمس في أذني عندما تلاطفه الرياح، فيصدر صوتا كأنه يبوح لك قسوة الرياح، الطقس الممطر، لكن يقيني في جل الأحيان، بل في كلها. أتذكر أيضا ذلك السلهام الذي أزيده فوق الجلباب، لتزيد معها الوقاية، الهيبة، التناسق.

عندما يكون الجو ممطرا، الكل يهرول إلى بيته، لا أحد يبقى، لا يجرؤ أحد على الخروج، وإلا تلقى قطرة مطر خارجة من فوهة مسدس السماء، تضربه فما يلبث حتى يصبح صريعا بالماء والبرد القارس. الناس في البادية كالنمل، تعمل وتذخر في الصيف والأوقات غير الممطرة، حتى إذا فاجأتها السماء بوابل من الأمطار، فرت إلى جحرها، فتقتات مما ادخرته لذلك الوقت.

أدخل البيت كما الناس، أطلب النجدة من جلبابي، فهو الوحيد الذي يفهمني، فرغم أنك تستغله وقت الحاجة فقط، ثم تطرحه في باقي الأوقات، إلا أنه يبقى وفيا، كما غير بني الانسان. نجتمع في غرفة واحدة، قبل أن يكون آل فايسبوك، تويتر، اليوتيوب.

الناس في البادية كالنمل، تعمل وتذخر في الصيف والأوقات غير الممطرة، حتى إذا فاجأتها السماء بوابل من الأمطار، فرت إلى جحرها.

نحضر الفحم المشتعل مصحوبا بالبخور الزكي الرائحة، نشكل حلقة حوله، كأنه الكعبة، لكن بدون طواف، الكل يحب تلك اللحظة، وأنا منهم، دفئ العائلة المجتمعة، مع دفئ الجمر الأحمر من شدة الحرارة، ودفئ الجلباب الصوفي صاحب القب الطويل المطرز. ندردش بيننا، ونحكي السوالف، ومن عادتي الاستماع لهم دون المشاركة، لكن عندما يلوحّون علي أخجل، فأحكي النزر القليل.

يستمر السمر إلى أوقات طويلة، أوقات للضحك، وأوقات للنقاشات الحادة في بعض الأحيان بين جيل على شكل وجيل جديد ولد بعقلية أخرى، بين الماضي القريب والحاضر، بين الأجداد والأحفاد، بين عصر الحشمة والوقار والبطولة -والجبال ما زالت شاهدة على آثار أقدامهم، وحوافر خيولهم-، وبين زمن آخر نعيشه.

في تلك اللحظة فقط أكتشف الفرق، الفرق بين أناس عاشوا اللحظات، وآخرون تمر بهم اللحظات دون يدركوا. يسأل البعض عن جوابي على سؤال أصدقائي، عندما يبدو السرور في محياي، عندما تمطر السماء تذكرني بتلك اللحظات، المعاني، العبر، الفرق الشاسع…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.