شعار قسم مدونات

ماذا لو كنت قيميّا؟!

blogs - ناس في الشارع
كيف تنهض الأمم؟ سؤال لطالما شغل بال كثيرين على مر العصور، من مؤلّف وفيلسوف إلى عالم وشيخ وشاعر وأديب وقس، كلّهم يبحثون عن أسباب النهضة، وما الذي يؤثر فيها سلبًا أو إيجابًا، ونرى في وسط هذا الزحام من يخرج ليقول: إنَّ نشر القيم وتعزيزها في المجتمع هو أساس النهضة، فهل هذا صحيح؟

ماذا تعني القيم مع انتشار البطالة والجهل والفقر؟ وماذا ستفعل تلك القيم في تعليم لا علم فيه؟ لم يعد العلم في هذه الأيام إلا ورقة يحصل الطالب بواسطتها بعد نهاية سنوات من الضياع على اعتراف بحصوله على شهادة ما، لا تضيف لشخصه أيَّ قيمة في أغلب الأحيان، ولا أُعمِّم. 

أتساءل أحيانا: ما الذي تستطيع تغييره حيال محاضر جامعي أقصى غايته أن يتبجّح بنسبة الرسوب العالية في شعبته، وينتشي فخرًا حين يسمع الطلبة يتحدّثون عن أسئلته مرّيخيّة المنشأ والمحتوى! أمّة في مؤخّرة الأمم الأخرى صناعيًا وتجاريًا وثقافيًا، كيف ستغيّر هذه القيم حالها؟ أليس أولى بنا أن نصلح جوانب الضعف، ونبحث عن نقاط القوة، وننعش الاقتصاد، وننشر الثقافة، ونبني جيلًا واعيًا مثقّفًا، وتجّارًا متمكّنين، ومبدعين صناعيين؟

للإجابة عن هذا السؤال دعونا نحلق بعيدًا بخيالنا، ولنفترض أنّنا نعيش في مجتمع قِيَمِيّ، يعيش أبناؤه حياتهم اليومية بكل تفاصيلها وفق القيم والأخلاق الحميدة، ولننزل سويّة إلى الخليّة الأولى في أسفل هرم المجتمع، إلى الأسرة، ولنبدأ من راعي هذه الأسرة؛ وهو الأب الذي يذهب إلى وظيفته عند بدء الدوام، ولا يهرب قبل انتهائه، فلا يضطر أن يرشي مسؤول الدوام، أو ييسّر له معاملات غير قانونية حتى يرد له الجميل! الجميل المُتَمثِّل بتغاضيه عن ساعات تأخيره وهروبه المبكّر!

تخيلوا أن تصبح جلسات النساء لمناقشة أهم المشاكل المجتمعية التي تواجه أبناءهم، وأن يبحثن عن الحلول، وأن يتخلَّيْنَ عن جلسات الغيبة والنميمة. لا أعرف إن كنت ستستطيع أن تتخيّل معي.

لنتخيَّل معًا أنّ هذا الموظف في أثناء دوامه تراه مبتسمًا يتعامل مع المراجعين بكل احترام، فلا يرمي المعاملة في وجه المراجع لتبدأ الرحلة التعجيزية في إنجاز معاملته، بل يحاول تيسير أموره ما استطاع، ويلتزم بالقانون فيكون عادلًا في أدق التفاصيل، ولا يرتشي، ويحافظ على الأموال العامّة، ويحرص على عدم هدرها، ويقترح دائمًا حلولًا إبداعية تطوّر مؤسسته، وتجعل من خدماتها أكثر مرونة ويسرًا وإتقانًا.

والأهم من هذا كلّه أنَّه سيعلّم أبناءه هذه القيم، فحين يخرج الولد إلى مدرسته صباحًا يرمي القمامة في الحاوية، لا جانبها، ولا يجعل كيس القمامة كرة سلّة فيسقط على الأرض ويفترشها، ولا يكتب على الحائط المجاور تلك الشتائم المؤلّفة وكأنها مقطع نثري! ولنتخيّل أنه سيميط الأذى عن الطريق، وأنه قد يساعد عجوزًا ما في حمل أغراضها إلى السيارة، وأنه يتحرّق شوقًا حتى يصل إلى مدرسته حبًّا بمعلّمه وزملائه، وإخلاصًا للدراسة التي لم تعد محض تلقٍّ، بل باتت دراسة ماتعة، فيها من الأنشطة ما يشدّه ويسعده، فالمعلم يقدّم المعلومة برحابة صدر وصبر على الطلبة، ويعدّ نفسه للتمكّن مما يقدّمه من معلومات للطلبة مستخدمًا أساليب التدريس الحديث، ولنا أن نتخيّل أنّ معلم اللغة العربية لم يعد يقبل بتدريس مادّة الرياضيات -مثلًا- لأنه لن يعلّم الطلبة كيف يخرج جذر العدد من المعجم!

ولنتخيّل أنه لن يستغل الطلبة ليعطيهم دروسًا خصوصية بعد دوامه، ولن يتملق للمدير حتى يغض الطرف عن نومه في الحصة الدرسية؛ لأنه سهر في عمله كسائق تاكسي بعد الدوام… ناهيك عن أن المدير القِيَمِيّ لا يقبل هذا التملق!

أما سائق التاكسي القِيَميّ –على ذكره- فماذا أقول لكم عنه… تخيّل أنه لن ينفث دخان سيجارته في وجهك، ولن يرفع صوت المسجّل حتى تصمّ أذنيك تلك الأغنيات التي تؤلّفها عشر كلمات تعاد وتزاد دون أن يكون لها معنى ولا مبرر لجمع هذه الكلمات أصلا في جملة واحدة! ولن ينسى في كل مرّة الطريق القصير ليسلك الأطول، ولن يغيب عن باله في كلّ مرّة تشغيل العدّاد!

ثم تخيّل معي الزوجة كيف سيكون حالها. وجه بشوش، متفهّمة لضغوط الرجل، أولويّتها زرع القيم في قلوب أبنائها، لا الجلوس مع نرجيلتها في أيّ مكان أقصى ما يقدّمه لأبنائها هو كيف يتعلمون نفث الدخان على شكل دوائر متتالية يأيسر الطرق وأسهلها. 

تخيلوا أن تصبح جلسات النساء لمناقشة أهم المشاكل المجتمعية التي تواجه أبناءهم، وأن يبحثن عن الحلول، وأن يتخلَّيْنَ عن جلسات الغيبة والنميمة. لا أعرف إن كنت ستستطيع أن تتخيّل معي مجتمعًا نسائيًا لا غيبة ولا نميمة فيه في زمن لم يعد الذكر يختلف كثيرًا عن الأنثى في مثل هذه الأمور!

هناك كثير من النماذج القيميّة في مجتمعنا، ولكن حبّذا لو تتضافر جهودنا حتى تزداد النسبة، وتنتشر القيم، وننشئ جيلًا قِيَميًّا يضمن لأمّتنا العودة إلى المجد الذي لم نعد نعرف عنه سوى القصص والأمثال.

لن تقبل المرأة القِيَمِيّة أن تكون على هامش الحياة الأسرية، تطبخ وتكنس وتمسح فحسب، ولن ترضى إلا أن تكون ذات دور فعّال في هذا المجتمع، ولن يمنعها الزوج القيميّ من تحقيق طموحها بما يتناسب مع حياتهم القيميّة. ولن تهرب هذه الأم من وظيفتها لأنّ زميلتها ستستر غيابها، فلا هي تقبل ولا زميلتها ستقبل، فقيمتا الصّدق والسعي وراء الرزق الحلال لا تسمحان لهما بفعل ذلك. وإذا ما انتقلنا إلى المرأة الممرّضة القيميّة فإنها ستمثل حقيقتها التي سمعنا عنها في الروايات، فتبدو ملاكًا للرحمة بابتسامتها وعنايتها بالمريض، وبذكر الممرضة القيمية سنتخيّل أنّ الطبيب القِيميّ لن يطلب إجراء عملية الزائدة حين يعاني المريض من التهاب في الأمعاء!

هل من المعقول أن يحدث هذا؟ وهل من المنطقي أن القيم إذا تعزّزت في مجتمعاتنا سنصل إلى هذا الشكل من الحياة؟ السؤال الآتي قد يعطي جزءًا من الإجابة، فالجزء الآخر متروك لتجربة كلّ في أسرته: هل هذا في الأصل مفقود في مجتمعنا؟ كم مرّة سمعت عن محاضر جامعي يقال عنه: لو كان كل المحاضرين مثله لتغيّر مستوى الطلبة جميعًا؟ وكم مرة صادفت سائق تاكسي أذهلك حسن خلقه وأدب تعامله؟ وكم مرة التقيت بممرضة وطبيب ومعلّم وموظف وتاجر قيميّ؟

في النهاية أنتَ وأنتِ أيًا كان دورك في هذا المجتمع، فأنت جزء من هذه اللوحة، فإما أن تضيف عنصرًا جماليًا يتألق ويجعل للّوحة قيمة أكبر، وإما أن تكون نقطة سوداء في وسط هذه اللوحة، فلا أنت غائب عنها ولا تضيف بوجودك أي قيمة إليها.

هناك كثير من النماذج القيميّة في مجتمعنا، ولكن حبّذا لو تتضافر جهودنا حتى تزداد النسبة، وتنتشر القيم، وننشئ جيلًا قِيَميًّا يضمن لأمّتنا العودة إلى المجد الذي لم نعد نعرف عنه سوى القصص والأمثال، ولعلّ عصورنا السوداء تعود ذهبية كما كانت في يوم من الأيام السالفة. فلنتكاتف جميعًا لنجعل من هذه المشاهد حقيقة نعيشها، لا محض حلم جميل نستيقط منه مع نهاية هذا المقال، ولتكن قِيَمُنا هي قيمتنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.