شعار قسم مدونات

فلسطين لا تستحق

blogs - أطفال ينتظرون أسراهم
قبل أن أبدأ تدوينتي هذه، دعوني أخبركم أني فتاة أكره المثالية جداً، وأكون أكثر قرباً للواقع كلما أوغلت في نفسي تفكراً، أكره أولئك الذين ينادون بالإيجابية، ولا شيء من الواقع -أو بالأحرى واقعي- يدعوني لذلك. أكتب هذه التدوينة، وثقل روحي لا يكاد يغادرني لحظة، سواد يعتم على بصيرتي، ليس لأني صحفية فحسب ويصلني جل ما يُرهق ويدعو لليأس، بل لأني إنسانة يأخذ الواقع جزءاً كبيراً من وقتي وحياتي.

أكتب عن الذين يقنعون الأنثى في بلادي بالإنجاب وأهميته، وأنا أقرأ الواقع، أتساءل عن أهمية الإنجاب، وتبعاته أضحت تشكل همّاً كبيراً لدى الأمهات. أكتب عن أطفال يقضون في غياهب سجون الاحتلال الإسرائيلي، أطفال يحكم عليهم الاحتلال بالسجن لسنوات أضعاف أعمارهم، والتهمة "فلسطينيون"، فهل فلسطين تستحق انجابنا وأطفالنا؟

أستغرب جداً من نساء فلسطين -رغم أني فلسطينية وأسكن فلسطين- كيف تضحك عليهنّ المثالية وتقنعهنّ بالزواج، وبجمالية الحياة الزوجية والعيش في ظل أسرة بأجواء إيجابية دافئة إذا ما أنجبن الأطفال، وواقعهنّ يختلف تماماً عن المثالية، ففي الواقع، يختطف الاحتلال الإسرائيلي أطفالهن حتى بلغ عددهم في سجونه أكثر من 400 طفل، ويضعهم في زنازين لا يستطيع استيعابها عقل رجل، فكيف سيقتنع بها طفل، فقد عائلته وألعابه وأصدقاءه فجأة؟ فهل فلسطين حقاً تستحق؟

دعني أخبرك أن نهاية هذا القعود موت حتمي بمرض القهر الذي سيصيبك، فلا أنتَ قادر على فعل شيء، ولن تجد مَن يدفع عنك وعن شعبك الظلم، فهل فلسطين حقاً تستحق؟

ضحكوا عليهنّ وأقنعوهنّ بالإنجاب، وفلسطين لا تستحق، أجل لا تستحق قلب أمٍ يتقطع على ابنها ذو الـ12 عاماً يتنقل من سجن اإلى آخر، سجن يحدده مزاج سلطات الاحتلال وهو مكبل اليدين والقدمين، الطفل الذي كانت أمه تختار له ملابسه، وتقلم له أظافره، وترعى مرضه وهي ساهرة فوق رأسه، أضحى اليوم وحيداً في زنزانة رطبة، تعطيه المرض وتسهر على أناته وأوجاعه وهو يتضجر ألماً.

يصبح الطفل في بلادي رجلاً دون إرادة مسبقة ودون العمر المحدد للرجولة، ثم يشيخ فجأة، كيف لا وكل يوم يمضي على أطفال فلسطين وهم في زنازين العدو الإسرائيلي بمثابة عام كامل؟ ليس المؤلم في الأمر وحده أن الأطفال يقبعون في السجون، إنما المقيت هو تنكر العالم لهؤلاء الأطفال، لا حراك محلي ولا عربي ولا دولي ولا أممي لتخليصهم من هذا الكابوس الظالم، فكلما حدثتُ أم طفل أسير يكاد قلبي ينفطر، أعدم كل شيء في الحياة، وأتصلب أمام قلبها وهي تسرد لي ما كان يحب ابنها من الطعام والشراب والحلوى واللباس، هو فرط الحنين الذي يجعل الأم تتحدث ودموعها تنهمر، ولكن لمَن تتحدث؟ وهل فلسطين حقاً تستحق؟

لسان حال أمهات الأطفال الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي يقول"ضحكوا عليّ فأقنعوني بالإنجاب، وفلسطين لا تستحق"، فالقدر الحتمي الذي يُولد فيه بعضنا بجنسية فلسطينية، حتماً سيتبعه قدر آخر، مثل قدر الأسر أو القتل على يد الاحتلال، وإن نجيت من إحداها، فثالثهما أن تكون قعيداً تحيا العمر كله متنقلاً على كرسي متحرك بفعل رصاص الاحتلال الذي أصابك يوماً ما، ودعني أخبرك أن نهاية هذا القعود موت حتمي بمرض القهر الذي سيصيبك، فلا أنتَ قادر على فعل شيء، ولن تجد مَن يدفع عنك وعن شعبك الظلم، فهل فلسطين حقاً تستحق؟

أكتب عن أطفال فلسطين، عن الطفل أحمد مناصرة الذي حكم عليه الاحتلال بالسجن 12 عاماً، والطفلين منذر أبو ميالة ومحمد طه وحكم احتلالي بسجنهم 11 عاماً، والطفلين شادي فراح وأحمد الزعتري بالسجن 3 أعوام، وأعمارهم ما زالت ضمن أعمار الطفولة التي حددها القانون الدولي، أطفال آخرين يعتقلهم الاحتلال تحت مسمى "الاعتقال الإداري" أي لا تهمة ضده ولكن يجب أسره، ولا موعد لإطلاق سراحه إلا وفق مزاح محاكم الاحتلال.

فلسطين لا تستحق، ولو طلبت مني أعطيتها نفسي، ولكني لن أعطيها تعباً يأخذ مني أعواما من الألم، فأنا أحق منها به، ألستُ إنسانة يا عالم دعاة الإنسانية؟

أكتب عن أعداد من الشهداء الأطفال الذين قضوا برصاص الاحتلال الإسرائيلي، فقدت فيه الأم الفلسطينية روح طفلها وليس جسده فقط، فهل حقاً أيها السادة فلسطين تستحق الإنجاب، أو كل هذا القهر، ألا تعي أيها العالم أن فرط الحنين والشوق للراحلين شيء يدمي القلب ويُهلك الروح العطشى والعين المشتاقة للراحلين؟ ألا تعي معي أيها القارئ أن 9 شهور و18 عاماً تقضيها الأم وهي تربي في طفلها وإذا انتقل لمرحلة الشباب والرجولة والكهولة، يظل في عينها طفلاً يحتاجها كما يحتاج العالم لأكسجين العيش.

أعلمك قارئي أنك ربما تجهمت من عبارة "فلسطين لا تستحق" كونك ابن أحد الأقطار الدولية الأخرى غير فلسطين، ولكني أقول لك الواقع، لن أتحدث بشعارات السياسيين الذين سرقوا منا الوطن أكثر مما سرقه الاحتلال، لسان حال الواقع الفلسطيني أن فلسطين لا تستحق الإنجاب، فعالم منشغل عنا وعن حقوقنا، فلماذا تنجب النساء وحتماً محاكم الاحتلال وزنازينه لأطفالها بالمرصاد.

أكتب، وأنا التي لم تخدعني المثالية، ولم تقنعني بالإنجاب، لأني بِتُ مقتنعة وإن كان اقتناعي لؤماً "أن فلسطين لا تستحق" فإذا طلبت مني أعطيتها نفسي، ولكني لن أعطيها تعباً يأخذ مني أعواما من الألم، فأنا أحق منها به، ألستُ إنسانة يا عالم دعاة الإنسانية؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.