شعار قسم مدونات

الانتماء لتونس والولاء لفرنسا

blogs - علم فرنسا تحمله فتاة
لا أكتب عن تونسيين ذوي أصول فرنسية أو فرنسيين ذوي أصول تونسية، بل أكتب عن تونسيي الأصل والمنشأ، أبناء أفريقية، نتاج الثقافة الهجينة بقلبيها العربي والأمازيغي، أتحدث عمن يدين بوجوده لأب عربي وأم أمازيغية أو أب أمازيغي وأم عربية. أتحدث عن الأقلام التونسية بحبرها الفرنسي، عقول تونسية بتفكير فرنسي، قلوب تونسية تنبض لفرنسا. لا تتعجب عزيزي القارئ، إنها النخبة التونسية ذات الولاء الفرنسي.. إنها الجالية الفرنسية بتونس..

إن أردنا تحليلا منطقيا لمسببات هذه الأزمة في الهوية والانتماء لا بد للعودة إلى ما يزيد عن ستين سنة، إلى ما قبل الاستقلال، مرورا بأطوار بناء الدولة الحديثة والأطراف المتداخلة في تأسيس ثوابت الجمهورية الأولى، وانطلاقا من هذه الإشارات نطرح هذه الأسئلة: هل سمحت فرنسا لتونس بتأسيس دولة مستقلة ذات سيادة وطنية مطلقة؟ هل يقتصر النفوذ الفرنسي بتونس على مجرد ولاء فكري أو سياسي؟ أم أن التبعية الاقتصادية هي الهدف الوحيد للدولة الفرنسية؟

نجح الفرنسيون في زرع أسس ثقافتهم في الطبقة البورجوازية للمجتمع التونسي طيلة سنوات الاستعمار، واستغلوا فترة البناء الوطني إبان الاستقلال لخلق نمط عيش موازي للهوية التونسية يتماشى مع أفكار العلمانية الفرنسية المتطرفة، وطبعا لم يكن هذا الهدف بالأمر الصعب في ظل تفشي الأمية وفراغ فكري وثقافي حرص عليه المستعمر طيلة أكثر من سبعين سنة، والنتيجة كانت مجموعة من الجامعيين والأكاديميين بهويات تونسية وعقول فرنسية. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه النقطة: ما الغاية من إنشاء هذه النخبة على رأس المجتمع التونسي؟

نخبة تدعي مواكبة العصر وتجهل الهوة التي تفصلها عن خصائص هذا العصر، عصر الإنتاج العلمي والاستثمار في العلوم، لا الاستثمار في عقلية الشعر الفرنسية التي أنهكتنا.

لا يغيب عن بديهة أي عاقل أن أبجديات الدولة العصرية تقوم على ثلاثة محاور، خط ثقافي يوجه الخط السياسي الذي بدوره يتحكم في الخط الاقتصادي للدولة، فالنخبة السياسية تستمد طاقتها من النخبة المثقفة ومحرك الاقتصاد هو الخط السياسي للدولة، لنصل في نهاية المعادلة إلى استنتاج أعمق يتنافى مع المنطق السياسي المعهود ألا وهو، تحقيق السيطرة المطلقة والدائمة على مفاصل الاقتصاد من طرف أجنبي تتطلب ولاءا ثقافيا تضمنه نخبة مزعومة. والنتيجة. ما يزيد عن 1300 شركة فرنسية تنهب ثروات هذا الوطن، أضف إليها سفيرا يعد المسؤول الأكبر في الجمهورية التونسية، تتسارع كل الأحزاب السياسية والمنظمات الكبرى للبلاد لنيل رضائه وتحقيق القرب من التوجه الفرنسي..

اليوم وبعد كل الجهود الفرنسية التي بذلت طيلة ستة عقود، لم يعد لثاني أكبر إمبراطورية استعمارية في التاريخ البشري أي حاجة لاستعمال آليات التدخل السياسي المباشر في تونس، فقد تمكنت من زرع ثقافتها داخل من يلقبون أنفسهم بالنخبة الوطنية، وأصبحنا نتحدث بعلنية ووضوح على ثقافة فرنسية موازية للهوية التونسية، نمط عيش فرنسي يتغلغل يوما بعد يوم داخل أعراف مجتمعنا ليصبح ركيزة من ركائز خصوصيات الذاكرة الوطنية.

اليوم هؤلاء الدخلاء لا يتحدثون عن اللغة الفرنسية كلغة أجنبية بل يصرون على تركيزها كلغة ثانية تنتمي لجذور هذا الوطن وأبرز برهان على ضعف المناعة الوطنية تجاه تجذر خصوصيات ثقافة بلاد السين في النخب الوطنية هو ميدان الفنون بكل تفرعاته وخاصة الإنتاج السينيمائي الذي انحصرت أعمال الرائدين فيه على قضايا وطموحات الأقليات اليسارية المعزولة على الأغلبية المطلقة من المجتمع التونسي ليتحول الفنان من مجرد صعلوك رديء الإنتاج، فاقد للإبداع إلى مصدر إلهام لطموحات الشاب التونسي.

هذا نتاج انفتاحنا على خصائص العلمانية المتطرفة الفرنسية. نخبة إقصائية، استئصالية علقت مع أفكار عصر ما بعد حداثية في بدايات القرن الحادي والعشرين.. نخبة تدعي مواكبة العصر وتجهل الهوة التي تفصلها عن خصائص هذا العصر، عصر الإنتاج العلمي والاستثمار في العلوم، لا الاستثمار في عقلية الشعر الفرنسية التي أنهكتنا..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.