شعار قسم مدونات

وستمنستر في قلب العاصفة

blogs - مبنى لندن
مبنى وستمنستر له رمزيته التاريخية في الديمقراطية الملكية الدستورية البريطانية. إنه رمز لحضور صوت المستضعفين ووضع حد للسطلة المطلقة للملك. إن له رمزيته في صراع طويل لأجل العدالة والمحاسبة، فللبرلمان أن يقرر ما شاء في عرف السياسة البريطانية فهو صوت الشعب؛ لأن الدستور عرفي وغير مدون في وثيقة جامعة.

إن الدستور مرن ومتغير؛ وإن كانت مرونته تمنحه القوة في التأقلم مع الجديد من الأحوال، فإنها لا تضمن حفظ حقوق الأقليات عندما يكون الرأي العام ضد بعضها. إن الهجوم الإجرامي على هذا المبنى وقتل الأبرياء بطريقة جبانة ستصدم الرأي العام البريطاني في عمقه التاريخي، وتذكره بمحطات حرجة في صراعه نحو العدالة والحرية، وتخوفه من تغوّل هؤلاء القتلة على قيمه الديمقراطية، ويعظم هذا الهلع عندما يقدم المهاجم كقوة خارجية هلامية يمكن أن ينفذها أي مسلم يعيش بينهم يدعو للرجوع إلى قيم القرون الوسطى.

إنه شبح الإرهاب، لذلك تجد من يسارع للاستثمار السياسي والعنصري في الحادثة بشن حرب على هذا الإرهاب وحواضنه ودواعيه بحسب الرغبة؛ ولكن ألا تحقق تلك الرجفة أهداف القتلة في إثبات عدم عدالة النظام البريطاني؟ ألا تستثمر ردود الأفعال السريعة في التضييق على الحريات في المزيد من التجنيد لتلك الأفكار المتطرفة؟ ألا تثبت للجيل المسلم الصاعد عدم قبوله كمواطن كامل الحقوق؟ عندما قتِلت البرلمانية البريطانية "جو كوكس" من طرف متطرف يميني أبيض، بسبب ميولها السياسية للدفاع عن اللاجئين، لم نسمع بحملة تشكيك حول مدى ولاء القومية البيضاء للقيم البريطانية. لم نسمع بدعوة الحرب على الإرهاب القومي البريطاني.

لقد استخدمت حجة "القيم البريطانية" لتهميش الدعوة بالمساواة والعدالة والتعايش والتناغم المجتمعي مع احترام التنوع الثقافي الذي عاش لزمن في المجتمع البريطاني وميّزه كثيرا عن بعض السياسات العنصرية للجوار الفرنسي.

حين قتلت الأم الشابة النشطة السياسية، والتي أنتجتها الديمقراطية البريطانية، لم نقرأ تغريدات كأمثال تلك التي لدونالد ترمب الابن في هجومه على العمدة المسلم للندن، كما لم نسمع حينئذ بالاستثمار الرخيص من باقي رؤساء الأحزاب اليمينية في أوروبا والساعية إلى تفكيك الوحدة الأوروبية تحت دوافع العنصرية والكراهية وبخاصة ضد الحضور الإسلامي في أوروبا.

للأسف، فمن السياسات التي أنتجتها الهجمات السابقة ببريطانيا قانون "بريفنت -المنع" الذي أثار الكثير من الجدل حوله، وتجاوز العديد من الأعراف الديمقراطية البريطانية في احترام خصوصية المواطن حين فتح حق التجسس على المواطنين والتبليغ عنهم في جميع المؤسسات بدعوى محاربة الإرهاب والحد من التطرف. لقد شكل هذا القانون تراجعا خطيرا في الحقوق والحريات ببريطانيا. صاحب ذلك الانتكاس التأكيد على تدريس "القيم البريطانية" في جميع المدارس البريطانية؛ ولكن السؤال الذي لم تتم الإجابة عنه بعد هو: ما حقيقة هذه القيم البريطانية؟ ما الذي يميّزها عن قيم شعوب حرة أخرى؟ ما الذي يجعلها قيما محددة وبريطانية ودائمة؟ وهل ستحل فعلا مشكلة التطرف بكل أشكاله؟ أم أن التطرف والإرهاب لن يكونا إلا باسم "محمد" وما شابهه؟

في اعتقادي، لقد استخدمت حجة "القيم البريطانية" لتهميش الدعوة بالمساواة والعدالة والتعايش والتناغم المجتمعي مع احترام التنوع الثقافي الذي عاش لزمن في المجتمع البريطاني وميّزه كثيرا عن بعض السياسات العنصرية للجوار الفرنسي. فهل سيشعر هذا التحول الأجيال البريطانية المسلمة القادمة بالانتماء الحقيقي على أساس العدل والمساواة؟ هل فرنسا الآن أكثر أمنا بسياساتها الطويلة الهادفة إلى ذوبان الآخر والعمل على طمس مظاهر الاختلاف في المجتمع الفرنسي؟ أليس الأحرى السؤال عن الأسباب العميقة التي أدت إلى توجه هذا القاتل إلى طريق الإجرام قبل اعتناقه للإسلام؟ أليس من الأجدى السؤال عن دور التعليم العام في المدارس البريطانية ومدى فاعليته في استيعاب الفئات المهمشة في المجتمع؟

أليس من الأنفع البحث عن الأسباب التي تجعل فئة معينة من المجتمع أكثر عرضة للاستثمار في حنقها لتدمير مجتمعها تحت أي شعار كان؟ أم أن التأكيد على خطابات القيم البريطانية سيجعل بريطانيا أكثر أمنا من الإرهاب بأنواعه وأشكاله وألوانه ودوافعه؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.