شعار قسم مدونات

نبض الكتابة

blogs - كتابة

يمضغ بعض القراء الفكرة المكتوبة جاهلاً مشقة إنتاج فكرة ولود أو كتابة مذهلة، يقول أحد الروائيين الكبار موضحاً سر تميزه، جرت العادة لدي مذ كنت في الثانية عشرة من عمري وأنا أكتب ما لا يقل عن ألف كلمة في اليوم، كل هذا ليدرب قلمه على أن يبق شامخاً إذا احتاج إليه. وإن معاناة الكٌتاب مع الأفكار والكلمات ليست سقفاً منخفضاً من الإرهاق بل هي معركة غير قابلة للوصف ولكنها معركة محببة للكاتب يضمر فيها معنى أن يولد الإبداع من رحم الجهد.

يعاني الكاتب على مستوى القبض على الفكرة التي يرتضيها لتكون مؤهلة للنشر، فهو يبحث عنها ابتداءً ثم تومض له من بعيد إلى أن تتكشف له بالتدريج فيروضها ويقلبها ويمسح عنها عيب التقليد ويدعمها بالبراهين التي تعطيها أفضلية البقاء ويأخذه الهم في رسمها على الورق فهو يريد لها ملبساً ذا مواصفات عالية لتتناغم مع الفكرة، هذه المعاناة ممكن وصفها بالولادة المثيرة وقد تكون أقل أو أكثر إنما الأفكار العظمى لا تتكون إلا عبر سفينة المشقة.

إن سهولة عملية الكتابة في وقتنا الحالي أتاح لعربة التعجل أن تدخل ميدان التأليف ومع كل ما يقال من التأفف من هذه الكتب العجولة.

الكاتب صاحب الجودة يتهلل وجهه فرحاً إن توافر على فكرة متماسكة ومن أهم مصادر سعادته حين يودعها الورق لتمارس عملية الانتشار. فقد استغرق ابن عاشور تسعاً وثلاثين سنة في تأليف تفسيره
"التحرير والتنوير" الذي يتكون من خمس عشرة مجلداً. وابن حجر تعب خمساً وعشرين سنة ليكتب "فتح الباري".

إن الأفكار المذهلة تختلف باختلاف المتلقين وأظن أن هناك سمات إذا تلحفت بالفكرة كان لها دوي قوي مثل أن تٌشحن الفكرة بالبراهين الكثيرة أو تسكن في القاع لتكون أرضاً تأسيسية مثمرة كالكاتب الذي ينحت مفاهيم ويوضح آثارها المعرفية ويمتد إبداع بعضهم فيرسم لك طريق إنتاج المفهوم لتتمكن من التسلح بهذه الأسلحة القوية لدفع المعرفة للأمام أو هي الأفكار التي تفتح الطريق للإبداع فيتعلم المتلقي منها الصيد بسنارته الخاصة.

الفكرة الآسرة كذلك ترتفع بالأسلوب اللغوي المتقدم لا يجنح للتعقيد ولا يتنزل للابتذال، إنما هي سلاسة الماء وعمق البحر فيختار الكلمات الابكار أو الحوامل إن صحت التسمية، أي ذات المضمون المكثف واللغة تتسلق الجمال إن تمكن منها الإنسان واستخدمها باعتبارها أداة فيها شيء من السحر وقدر كبير من الجاذبية ووسيلة كبرى لنقل الأفكار والمشاعر، إن الفكرة المتألقة لا تتوسل بل تخترق إذ معها جيشها الكافي لفرض السلطة.

نادرون أولئك الذين يدججون عقل القارئ بالأفكار الجيدة أو كتابة أدبية بديعة والسبب فيما يخص الأفكار أن طبيعتها تحتاج شروطاً متعددة لنجاحها وأما الكتابة الأدبية فشروط نجاحها أقل إن هذا الزمن الذي تقارب فيه العالم مع بعضه ساهم بشكل كبير في تلاقح الأفكار حيث إن الحوار لحظة تفكير مشتركة والذي نرجو أن يساهم في توسيع العقل وإثرائه وبالتالي ولادة أفكار عالية القدر تعانق الجمال وتشق طريقها نحو الانتشار.

إن التلاحم مع الأفكار وخوض المعارك مع الكلمات مؤذن بولادة كٌتاب يصيبون المعاني الكبار بشرط توفر خاصية التطوير المستمر.

ينظر الناس بقدر كبير من الإعجاب والتبجيل إلى الكاتب الذي يتحمل مسؤولية الكلمة ويحاول العيش في صندوق الإتقان ويجهد نفسه لتكون كتابته ناهضة تسابق في مضمار التميز بكل شجاعة ويختار لهم أطايب الأفكار وأبكار المعاني وقد لا يتصور الكاتب مقدار البهجة التي يدخلها على القارئ حين يكتب كتابة ذات مضمون ممتلئ، إن بعض القراء يقف مبهوراً ويتنفس بقوة وبعضهم يصرخ وآخرون يصفقون بأيديهم، كل هذا يحدث لحظة إدهاش الكاتب لقارئه.

قد يظن القارئ أنني أفرض شروطاً قاسية لتقييم الأفكار ووضعها في سماء التميز، إنما هي دعوة صادقة وسريعة وخجولة لبذر النباتات التي تثمر، كان ذلك في أرض الكتابة أو أرض القراءة فكلاهما يحتاجان قدراً كبيراً من الوعي والمسؤولية.

لن يكتب كاتب ما كتابة متميزة وهو فقير اللغة والفكر إذ كيف يطعم الورق من كان خالياً من غذاء، إن سهولة عملية الكتابة في وقتنا الحالي أتاح لعربة التعجل أن تدخل ميدان التأليف ومع كل ما يقال من التأفف من هذه الكتب العجولة، فإن التلاحم مع الأفكار وخوض المعارك مع الكلمات مؤذن بولادة كٌتاب يصيبون المعاني الكبار بشرط توفر خاصية التطوير المستمر.

إن القارئ الحصيف الهُمام باعتباره يريد الترقي في سلالم التعلم درجات ينتفض باحثاً عن الكاتب الذي يساهم في ترقيه المعرفي، ويرهق ذاته بحثاً عن كتاب يكون سفينته في رحلة الترقي ولن يشبع نهمه كون الكتاب تزلف الشهرة كأعلى الكتب مبيعاً إذ تستهويه الجودة لا الشهرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.