شعار قسم مدونات

لماذا لا يطير الطائر؟

blogs طائر

من قال بأنَّ الطائر حرٌّ! ألِأَنه بجناحين صار حراً؟ عظامه خير دليل على أَسْرِهِ فهي لا تزال مفرغة تماما! أُصاب بحيرة قاتلة كلما أرى ذات العصفور في نفس الوقت الصباحي بموعد مع أقصر غصن لشجرة الحديقة الضَّيقة! لماذا؟ إنك تملك هوية للغوص في أمواج السماء فما الذي يدفعك لترى نفس الوجوه يوميا وتزقزق بنفس الإيقاع وتطير على نفس الارتفاع الهابط وتبني عُشّاً من أزهد الأخشاب ومن أغصانٍ متكسرة؟! أما كان عليك أن تحصل على حريتك! ما الذي يُقيُّدك؟ ما الحرية بالنسبة لك؟ 

فكرتُ ملياً فيما لو كنتُ طائراً: سأحلّق عالياً حتى يستقّرَّ قطن الغيم بدفء على ريشي، وسأسافر عبر محطّات السماء وأستقلّ قطاراتها في رحلة أجوب بها العالم! وسأسابق أطول أمواج المحيط الهادئ.  سأتناول إفطاري فوق إيڤل والذي سيكون الخبز الفرنسي الهش الفاره!  وعند العصر لن أقبل بأقل من الشاي البريطاني في وسط لندن، ولن أُفوِّت فنجان قهوة هادئ في عَمّان أنوي بعده نقش اسمي في وردية البتراء. 

سأزور إسبانيا وأعشق كناريّة هندية -أمها باكستانية- جاءت لتدرس فنون العمارة في الأندلس، عيناها كعسل يمنيّ، وصوتها جَبليّ لبنانيّ حنون كنايّ روسيّ أحيا حفلاً إنسانيّاً في مسارح إيطاليا! أُغرم بها فتزيد قيودي حريةً

سأتسلق جبال الهمالايا بقوة حرية جناحيّ، سأغفو على سنديانة تسكن حدود الصين، سأتعلم زقزقة مختلفة من سنونو تهاجر صيفاً إلى اليابان، سأصلي الأحد على سجاد إيراني أتلو فيه العلمانية، وسأقطف ياسمينا شاميّاً وأحملها بطرف منقاري وأزرعها في ساحة بابل، سأقف على الأهرامات مؤدياً تحية الثقافة للسودان، وأَتَيَمَّم بالنيل طاهراً، وأحضر حفل تأبين صقرٍ على صليب الناصرة. وسأرسم على ريشي وشماً أمازيغياً وأصبغه بألوان المغرب .

سأزور إسبانيا وأعشق كناريّة هندية -أمها باكستانية- جاءت لتدرس فنون العمارة في الأندلس، عيناها كعسل يمنيّ، وصوتها جَبليّ لبنانيّ حنون كنايّ روسيّ أحيا حفلاً إنسانيّاً في مسارح إيطاليا! أُغرم بها فتزيد قيودي حريةً، أحاول اقناعها بأن ديكينز خير الروائيين وهي لا ترى كجمال دوستويڤسكي، أحب أنا هيغل وهي تُقدس شوبنهاور، أعشق القباني وتحتمي هي بقهوة درويش! أرى في أميركا الشمالية الثراء وهي ترى في الجنوبية الاسترخاء. أقول لها في ألمانيا البطولة وهي لا تنسبها إلا للبرازيل، نتحادث عن أخيل فنختلف من أرسى قواعد الملاحم أولا الرومان أم اليونان! أحب صباح الخير وتحب هي صباح فخري!! أذكرها بانتظام عود فريد الأطرش فتباغتني بسؤال: ألا تعرف أوتار صوت أم كلثوم؟! لا اتفاق أبدا وكأننا أعداء ولكن في عينينا دمع من ذات الجرح: "الألم والدم والدمار في كل مكان، والأوطان ضاعت لأزمان وأزمان" … ما لبثنا حتى أبحرنا معاً في قناطير مراسيم الزواج المقام في تاج محل !

آهٍ لو أنني طائرٌّ! لما لبثتُ حيث أنا لأكثر من رفرفة جناحين. ما بوصلة الحرية؟ هل الحرية خيارٌ أم حلم؟! ولكن حقا لما لا يطير طائرنا؟

عُشُّنا أرستقراطيّ، فكل خشبة منه من بلد ما، سأبنيه فوق أعلى شجرة في غابات الأمازون، حيث الرَّوحانية في المكان ماليزيّة، سأعلق بعضاً من اللوحات البسيطة: واحدة في السّقف؛ فيها سخرية من عصافير العالم الثالث! وأخرى فيها نسر عربيُّ لا يزال يرى نفسه في العصر الذهبي مع أنه "مخلوع منبوذ خائن"! سنكون أسرة مثالية! لن يكون في أجنحة أولادنا رصاص وقنابل من الكراهية، لن أُقيّدهم باتفاقيات للغاز والسلام، وعقود للنفط وأسواق الأسلحة السوداء، وبورصة الدولار! 

سأحج في القدس في الأشهر الحرم وسأنطق فوق قبة الصخرة: "لا إله إلا الله"! كقوة ذاك العبد الذي أعلنها لأول مرة بعد ثلاثة وعشرين عاما من انطلاق دستور مدني جمع جمال عيسى وقوة موسى. آهٍ لو أنني طائرٌّ! لما لبثتُ حيث أنا لأكثر من رفرفة جناحين. ما بوصلة الحرية؟ هل الحرية خيارٌ أم حلم؟! ولكن حقا لما لا يطير طائرنا؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.