شعار قسم مدونات

خلافات عفا عليها الزمن

مدونات - الفقه
"ما تكرر تقرر" هكذا صورت هذه العبارة البليغة لفظا ومعنى، أحد أهم موارد الوهم في الفكر والعمل، وهو كثرة التداول والترداد لفكرة أو عبارة حتى تصل إلى محل التسليم والقبول، ليس لقوة فحواها ورجاحة براهينها بل لإلحاحها وتكرارها الذي يجعلها تتجاوز النقد لتستقر آمنة في حيز التسليم والقبول لتنتج ما لا يحصى من زلل في القول والعمل.

ومن فروع ذلك ما شاع على الألسنة وتلقته العقول بالتسليم من أن الخلافات التي كانت بين السلف والمتكلمين هي "خلافات عفا عليها الزمن" وتجاوزتها اللحظة الراهنة، وأي خطاب يتناولها فهو خطاب ماضوي لم يبرح مكانه في القرون الأولى، فكان من الضروري إخراج هذه الفكرة من مأمنها وإعادتها إلى حيز النقد، وتهديد هذه الوثوقية التكرارية.

وسأقسم هذه المقولة النقدية إلى فروع ثلاثة، أولها حول اتصال الخلاف السلفي-الكلامي بالواقع اتصالا وثيقا، ثانيها حول مدى استحقاقه للعناية، وهما مقدمتان سيقودان لنتيجة حول موقعه في أجندة الأولويات والمهمات الإسلامية.

جاء الدخيل الاستعماري "والعقل الحداثي"، ليعمل على تهميش النص في ميادينه التي كان لا زال حاضرا فيها، ولم يكن عمله صعبا، لأنه كان امتدادا لأطوار سابقة من تهميش النص وتطويعه.

أولا: هل من الممكن أن نرصد علاقة تربط هذا الخلاف التاريخي بأنواع الخلافات الحالية والصراع الإسلامي مع التيارات العلمانية والحداثية؟
والجواب: بالطبع، يمكن بقدر من التأمل أن نرصد خلف هذا التنوع في أشكال الخلاف وحدة واتساقا، ويمكن رد هذه الخلافات إلى أصل واحد يتمظهر في صور عدة عبر العصور، ألا وهو الخلاف بين الأصيل والدخيل.. بين العقل الشرعي النصوصي، والعقل الوافد.. بين تقديم الوحي وتسييده، وبين تهميشه وتحييده..

وقد مر هذا الخلاف بأطوار:
وكان الطور الأول هو الصراع بين السلف والمتكلمين، ففي حين مر القرن الأول دون منازعة تذكر للوحي في ميادينه، جاء الخطاب الكلامي ممثلا في المعتزلة والجهمية، بمحاولة لتهميش الوحي في أهم ميادينه هو ميدان صفات الخالق أو المعرفة الإلهية، والإيمان والقدر ونحوها من أمهات المسائل العقدية. حيث جعل المتكلمون هذه المسائل من "العقليات" التي تُرَد ابتداء إلى العقل -والعقل هنا هو اليوناني-. أما السمع/الوحي فيأتي تاليا تابعا، يمكن بسهولة استخدام معاول التبديل والتأويل ليتوافق مع مبادئ العقل (اليوناني).

– فجاءت ردة الفعل السلفية العنيفة، التي كان فحواها هو التمسك بتقديم الوحي ومركزيته في ميادينه وأولها ميدان العقائديات والإلهيات، ومن أصدق العبارات التي تبرز مكنون هذا الاستنفار السلفي مقولة الإمام مالك: أوَكلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد عليه السلام لجدل هؤلاء؟. هذا هو لب الصراع، هو موقع الوحي، أصل أم تبع؟

– ولقد ورث هذه المضامين الاعتزالية والجهمية -التي لقيت مجابهة عنيفة من السلف- متأخرو الأشاعرة،
قال د.حسن الشافعي وهو يؤرخ للمذهب الأشعري: العهد الثاني.. وفيه نزع المذهب إلى الإسراف في التأويل وتبني المناهج الاعتزالية، والقبول ببعض الأفكار الفلسفية، مما كان تمهيدا للتطور الذي لحق بالمذهب بعد ذلك حتى كاد يلتحم بالاعتزال.اه

– وبينما ظفر الخطاب السلفي في جولاته الأولى، آل الأمر بعد ذلك -بدعم سياسي- إلى تقدم الخطاب الكلامي وتنامي نفوذه، وتراجعت مركزية الوحي في باب المعرفة الإلهية.
 

البحث في الإلهيات وأمهات المسائل العقدية لابد من وجوده في قائمة المهمات الإسلامية، لعظم موقعه في خطاب التشريع، ولبقاء المذاهب الكلامية وسطوة حضورها بقوة في كثير من الأكاديميات والمحافل العلمية حتى الآن.

– ثم جاء صراع آخر من الجنس نفسه، حين ظهرت انحناءة واضحة في مسيرة التيار السلوكي الصوفي بانفتاحه على مناهج سلوكية أخرى مسيحية وهندية، وجاء العقل (الشرقي هذه المرة) ليقلص من مركزية الوحي في باب السلوكيات، وفي حين لم تمتد الصوفية الحلولية لجنوحها ومصادمتها للنصوص، فقد نجحت صوفية أخرى تحمل انحرافا سلوكيا واضحا عن الطريقة النبوية، وهي الصوفية القبورية، التي تمادى نفوذها حتى كأنها المذهب الرسمي للمسلمين السنة في عهد الدولة العثمانية، فتراجعت مركزية الوحي ومصدريته في باب السلوكيات.

– ثم جاء الدخيل الاستعماري "والعقل الحداثي" في آخر أطوار هذا الصراع، ليعمل على تهميش النص في ميادينه التي كان لا زال حاضرا فيها، ولم يكن عمله صعبا، لأنه كان امتدادا لأطوار سابقة من تهميش النص وتطويعه، فكان هينا إقصاء النص أيضا في ميدان الحكم والتشريع.
 

– ومن هذه السردية المختصرة نرى اتساقا واتصالا بين الماضي والحاضر، وأن الصراع حول مركزية النص في باب الإلهيات هو -عند تجريده- الطور الأول من أطوار الصراع بين الأصيل والدخيل، وأن غلبة المذاهب الكلامية ونجاحها في إضعاف مركزية النص في باب الإلهيات كان تقدمة لإقصائه من ميدان السلوكيات وعلى امتداد ذلك من ميدان الحكم والتشريع.
 

وثاني أوجه النقد: إن كان هذا الخلاف ماضويا بيزنطيا، فما هو المركزي الوقتي؟
ولن تخرج الإجابة عن هذا السؤال عن الحديث عن أن المركزي هو ما يتعلق بتقدم المسلمين العلمي والحضاري أو تحررهم من قبضة الهيمنة العالمي. وهذا الكلام قد يصح بتفلسف براجماتي، يرد صحة الأقوال وفائدتها إلى مردودها المادي وحصيلتها الكمية، أما بالنظر الشرعي، فإن الخطاب المتعلق بصفات الخالق هو خطاب ذو بال ومستحق للعناية

ويمكن بسهولة رصد هذا من الخطاب القرآني والمساحة الكبيرة التي احتلها الحديث حول الصفات الإلهية، ويكفي مثالا وبيانا على هذا سورة الإخلاص"قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ" ففي الصحيحين أنها "تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ"، وأعظم آية في كتاب الله آية الكرسي هي آية صفاتية بالأساس، وأعظم سورة في القرآن الفاتحة يحتل البيان الصفاتي صدرها. أما في الأحاديث، فمجرد حصر المصنفات التي أفردت للنصوص الصفاتية وكذا الأبواب التي أفردت لها في كتب الصحاح والسنن يشير بوضوح إلى مكان هذا المبحث في المدونة الشرعية.
 

أكثر المتكلمين نصوصيون سلفيون فيما يتعلق بالأحكام والتشريع، فعند مقارنتهم بالمذاهب الحداثية التي ترمي لإقصاء النص من كل ميادين حضوره، نرى أن هذا الخلاف لابد أن يتأخر ويحل محله الوفاق بين السلفيين والمتكلمين في مواجهة هذا العدوان والجنوح اللاديني.

ثالثا: بقي السؤال حول مكان هذا الخلاف في أجندة الأولويات الإسلامية:
والجواب عنه مترتب على المقدمتين السابقتين، فيتبين منهما أن البحث في الإلهيات وأمهات المسائل العقدية لابد من وجوده في قائمة المهمات الإسلامية، لعظم موقعه في خطاب التشريع، ولبقاء المذاهب الكلامية وسطوة حضورها بقوة في كثير من الأكاديميات والمحافل العلمية حتى الآن.
 

أما عن الترتيب
فأيضا يتبين مما سبق، فالمتكلمون هم أول أطوار التخفف من مركزية النص، وبالتالي هو أخف صوره، فقد اقتصر نزاعهم على أبواب الصفات والقدر ونحوها، مع الإقرار التام بمرجعية النص في أبواب أخرى اعتقادية كالإيمان باليوم الآخر، علاوة على أبواب التشريع، فأكثر المتكلمين نصوصيون سلفيون فيما يتعلق بالأحكام والتشريع. فعند مقارنتهم بالمذاهب الحداثية التي ترمي لإقصاء النص من كل ميادين حضوره الأخلاقية والتشريعية، نرى أن هذا الخلاف لابد أن يتأخر ويحل محله الوفاق بين السلفيين والمتكلمين في مواجهة هذا العدوان والجنوح اللاديني.

ولهذه التراتبية وفقه الأولويات أمثلة كثيرة، منها: صلاح الدين الأيوبي الذي كان يعتنق المذهب الأشعري، ومع ذلك كان من رفقائه اثنان من أعلام السلفيين والنصوصيين في عصره وهما أبو محمد ابن قدامة وأخوه أبو عمر ابن قدامة الحنبليين السلفيين، ولم يمنعهما الخلاف السلفي الكلامي من الاصطفاف مع صلاح الدين ضد الصليبيين، وعلى امتداد هذا الفقه الأولوي كان ابن تيمية يمدح نور الدين الزنكي وصلاح الدين لتخليصهم الشام ومصر من الحكم العبيدي ولبلائهم في مواجهة الصليبيين، وكان يسميهما ملوك السنة.

وجماع الكلام أن تهميش وتهوين الخلاف مع المتكلمين حول الصفات والقدر وغيرها خطأ، كما أن تقديمه وتصديره على ما هو أولى منه كالصراع مع العلمانية والهيمنة الاستعمارية خطأ من نوع آخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.