شعار قسم مدونات

الديمقراطية بعيون غير ديمقراطية

مدونات - انتخابات

في كتب السياسية وعلم الاجتماع ما زالت الديمقراطية تُدرس بالمفهوم الرومانسي القديم بأنها الكلمة اليونانية التي تعني "حكم الشعب"، ورغم أن هذا المعنى هو اشتقاق لغوي تم صياغته من المصطلحين الإغريقيين (ديموس) "الشعب" و(كراتوس) "السلطة" أو "الحكم"، فإن أغلب الكتب التي صاغت مفهوم الديمقراطية خلطت الجذر اللغوي للكلمة بالمعنى الاصطلاحي والفعلي لمفهوم الديمقراطية الحالي الذي يحتاج تعريفاً محدداً لا يمكن معه الاكتفاء بالقول إنها "حكم الشعب"!
 

بالطبع، لست في معرض سرد تاريخي وممل لمفهوم الديمقراطية وأشكالها، فالكتب والإنترنت تزخر بمثل هذه المعلومات والمفاهيم الأكاديمية، لكني أعتقد أن الإحاطة بمفهوم الديمقراطية وشروطها أصبح أمراً ضرورياً في وقتنا الحالي، خصوصاً وأن الجميع -بلا استثناء- أصبح يحاول استغلال العمومية التي يكتنفها مفهوم الديمقراطية، ليؤسس لمفاهيم غريبة وشاذة، مثل أن صناديق الانتخاب لا تمثل الديمقراطية، وأن الديمقراطية لا تعني حكم الأغلبية.. إلخ من هذه المفاهيم التي نسمعها كل ما جلبت الديمقراطية اتجاهات لا يرغب بها هؤلاء.
 

في عالمنا العربي، نحن نريد أن نطبق الديمقراطية على نفوس تأبى أن تكون ديمقراطية، ونريد أن نطبق التعددية على أناس لا يقبلون بها، ولا يمكن أن لنا نُجمع أو نتوافق على عقد اجتماعي بطرق سلمية وحضارية.

ولنكن أكثر وضوحاً، وحتى نحيط بمفهوم الديمقراطية بالشكل المطلوب، فإنه لا بد لنا من أن نميز بين مفهوم الديمقراطية وعيوبها، وأن لا نستغل الانتقادات أو المخاوف التي نشعر بها اتجاه الديمقراطية لتأسيس مفاهيم لا علاقة لها بالديمقراطية، فصناديق الانتخاب – أعجبتنا أم لا تعجبنا- هي في المحصلة الطريقة الأهم في التمثيل الديمقراطي، والأغلبية سواء كانت ديمقراطية أو مستبدة، قليلة أم كثيرة هي من تقرر وتحكم في الأنظمة الديمقراطية.
 

وتأسيساً على ما تقدم، فإن المفهوم الأكثر قرباً للديمقراطية التمثيلية التي نعرفها اليوم، هو ما صاغه العالم النيوزلندي برين ربر في كتابه "تاريخ الديمقراطية.. تأويل الماركسية": بأنها شكل من الحكم يتيح سبلاً معتبرة تستطيع غالبية المواطنين من خلالها أن تمارس تأثيراً كبيرًا في صنع القرارات والسياسات.
 

وإن كان شكل الحكم يختلف من دولة لأخرى، فإن جميع الدول الديمقراطية اتفقت على صندوق الانتخاب باعتباره الوسيلة الأكثر نجاعة لممارسة الأغلبية حقها في صنع القرار أو التأثير به، وارتضت لنفسها وفقاً لعقد اجتماعي أن تكلف من يملك الأغلبية العددية والسياسية بإدارة شؤون الدولة والمجتمع.
 

نعم ليست الديمقراطية مجرد صندوق انتخابات، ولا هي مجرد تشكيل أحزاب ووضع قوانين، ولا بد من توفر مجموعة من الشروط الهامة فيها حتى تكون نظاماً ناجحاً، فعلى سبيل المثال لا بد وجود عقد اجتماعي تُجمع عليه مكونات المجتمع، فمن دون وجود عقد اجتماعي فإن الديمقراطية النيابية تتحول إلى ديمقراطية استبدادية، كونها تتم بطريقة لا يريدها المجتمع.
 

ومن الشروط الهامة أيضاً، أنه لا يمكن إقامة نظام ديمقراطي دون وجود ديمقراطيين، فليس من الممكن إقامة نظام سياسي واجتماعي دون مواطنين يؤمنون بالتعددية، فمن دون الاعتراف البديهي بحق الآخرين بالاختلاف والتعبير، فإن الديمقراطية ستؤدي إلى تعميق الانقسامات المجتمعية بجميع أشكالها والعودة إلى مرحلة ما قبل الدولة، فلا ثورة بدون ثوار، ولا ديمقراطية بدون ديمقراطيين.
 

وهنا بالذات تكمن المشكلة الكبرى في عالمنا العربي، فنحن نريد أن نطبق الديمقراطية على نفوس تأبى أن تكون ديمقراطية، ونريد أن نطبق التعددية على أناس لا يقبلون بها، ولا يمكن أن لنا نُجمع أو نتوافق على عقد اجتماعي بطرق سلمية وحضارية، فنحن أبناء قرون من الهيمنة والاستبداد، وأغلبنا هم أسرى الولاءات العشائرية والطائفية، وبالتالي فإن جميع تجاربنا الديمقراطية من اليمن جنوباً وحتى موريتانيا شمالاً، تنتهي بعشريات سوداء وانقلابات عسكرية وحروب أهلية.
 

كل ما سمعنا به بعد فوز الإخوان المسلمين في الانتخابات التي أعقبت الربيع العربي، وجميع ما نسمعه حول استفتاء تركيا، من بكائيات ولطميات على الديمقراطية، هي لغو سياسي من شخصيات تتظاهر بأنها ديمقراطية.

ذلك أننا منذ البدء لا نريد ديمقراطية تمثيلية تعبر عنها الأغلبية، بل نريد ديمقراطية توافقية تعبر عنها توازنات القوى، وبالتالي فإن أي نتيجة تهدد هذه التوازنات، ستعني بالضرورة انقلاباً قادماً أو مجزرة إنسانية في الأفق، ولعل تجاربنا العربية غنية في المجازر والانقلابات العسكرية والناعمة بعد كل نتيجة تهدد مصالح الطرف الذي يملك القوة العسكرية.
 

وبالتالي، لأننا أطراف غير ديمقراطية، أصبحنا نريد أن نكرس مفاهيم جديدة للديمقراطية، فصرنا نسمع كلاماً غريباً أن الديمقراطية ليست حكم الأغلبية، أو نسمع تحليلات غريبة عن انقسام المجتمع وأن الفوز الذي يكون بنسبة ضيئلة كـ 51 بالمئة هو فوز ضعيف يتجاهل تمثيل البقية الشعبية، إلى ما هنالك من نكت لا تمت للديمقراطية بصلة.
 

نعم ، قد نستطيع انتقاد الديمقراطية بأنها تهمل الأقلية، ومن الممكن أن نقول ما نشاء عن عيوبها، لكن لا يمكن لنا أن نخترع مفاهيم جديدة، ونفصل مفهوم الديمقراطية وفق ما نرغب، فالديمقراطية ببساطة هي حكم الأغلبية التي تفوز بصناديق الانتخابات، ورفضك لصناديق الاقتراع هو انقلاب على العقد الاجتماعي الذي قبلت فيه بشكل ضمني بمجرد مشاركتك بالانتخابات.
 

وعليه فإن كل ما سمعنا به بعد فوز الإخوان المسلمين في الانتخابات التي أعقبت الربيع العربي، وجميع ما نسمعه حول استفتاء تركيا، وصعود الشعوبية في أوروبا من بكائيات ولطميات على الديمقراطية، هي لغو سياسي وقانوني صادر في أغلبه من شخصيات تتظاهر بأنها ديمقراطية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.