شعار قسم مدونات

"دين المرحمة"

blogs - مصاحف
"اليوم يوم المرحمة"… قالها نبيّ الإسلام وهو يدخل مكّة فاتحا (فتح الباري: 95/12)… مصدّقا للبيان الإلهي الواضح "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء: 107) بقوله وفعله، ومؤكّدا للقاعدة الرّاسخة التي لا يَضيرها تنطّع المتنطّعين من أبناء هذه الأمة، ولا تشكيك المشكّكين من جهات كثيرة مناوئة لهذه الحضارة وهذا الدّين… وليست "شيطنة الإسلام" جديدةً على الثقافة والوعي الغربيين، وإنّ ما يحاوِل الغربُ نشرَه هذه الأيام من ظاهرة الخوف من الإسلام، إنما يستعيد به تجربةً خاضها مع الإسلام ومع شعوبه لمدى قرون.

يحدثنا (Jean Flori) عن هذه التجربة فيقول: "إن المجهود التعبوي العامّ للإساءة للإسلام يدخل ضمن عملية "إنتاج متخيّل جمعي" حاقد على الإسلام، يُنشّط لدى المسيحي الشّعور بضرورة الاستجابة لمحاصرة الإسلام، والانخراط الطوعي لإعادة الاعتبار للمسيحية…" (جان فلوري: الصورة الكاريكاتورية للإسلام في الغرب -الطبعة الفرنسية- ص 94).

ويلاحظ جان فلوري بأن ذلك تمّ في وقت بدأت تظهر فيه المسيحية بوجه جديد للعدوان والغزو من خلال الظاهرة الصليبية. إذ في فترة كانت فيه على أرض الإسلام، ولا سيما في إسبانيا وفي الأراضي المقدسة نسبة عالية من التسامح "النموذجي في زمنه" بين الديانات الثلاث، عملت المؤسسة الكنسية على اختيار نهج العنف بتقديم صور "شيطانية" عن الإسلام قصد تحطيمه والحدّ من انتشاره، لدرجة أنه مع الزمن "نمت نوع من البارانويا من الخطر الذي يُمثّله المسلمون" (المصدر السّابق).

ما نراه من مظاهر التطرف أو التنطع لدى بعض الناس هنا أو هناك، هو في الغالب مظهر غريب عن ثقافتنا وديننا، وهو نتيجة طبيعية لعمليات الإذلال والتسلط التي مُورست في مواطن كثيرة من أرضنا.

وما كان هذ المجهود التعبوي العامّ للإساءة للإسلام والإجهاز على خيرات المسلمين يحلم بهديّة أفضل من "متنطّعين" يُصدِّقون بتصريحاتهم المندفعة ومواقفهم الشّاذّة اتّهاماتٍ حاقدةً تردّدت كثيرًا في أذن الزّمان تبحث لها عن "مصداق" حتّى جاء بعضُ الشباب المتنطّع في هذا الزّمان فأهدوها كلّ ما تحتاجه من المؤيّدات والمصدّقات.

إنّ هذه الظّواهر "المتطرّفة" ليست سوى طلائع ضالّة لمقاومةٍ مشروعةٍ تملأ قلوب كلّ الذين لم يركنوا لعمليات تدجينٍ ممنهج طال أمدها وتنوّعت طرائقها، وضجت قلوبهم من الظلم الذي ينزل بأرضنا وإخواننا وحرائرنا في فلسطين والعراق وسوريا، ولن يركنوا للظلم في أي بقعة في الأرض.. وما هي إلا صناعة هجينة وُلدت من سفاح غريب بين اندفاعِ حمقى يملكون مبرّرا مشروعا، وجِهَاتٍ مشبوهة احترفت تحريك المندفعين بطريقة مباشرة وغير مباشرة ترعى مصالح دُول تعوّدت منطق الاختراق وتحريك الدّمى من بعيد.

إنّ الإسلام كدين، هو أعظم وأجلّ من أن يُحصر في حفنة من المتنطّعين والغالين والمتطرّفين… وإنّ الدولة الإسلامية كتجربة وكتاريخ وكمفهوم هي أعمق وأوسع مدى من داعش والقاعدة وكلّ السّطحيّين، وهي أكبر من الذين يتذرّعون بالمتطرّفين ليُلبّسوا على النّاس ثقافتَهم، ويزيفوا بديهيات تاريخهم… ولن تُفلح المغالطات في اغتيال "المفاهيم" الراسخة في أرض الفكر، ولن تقدر أن تقتلع "الثقافات الاستثنائية" من أرضها وفعلها في الحياة مهما تراجعت تلك الثقافات.

ذلك أنّ الثقافة الإسلاميّة قدَر من أقدار الكون لا يُمكن اجتنابه، ولن تنجح قواعد الهدم الحضاري الجاثمة على صدر أوطاننا في أن تزوّر التّاريخ لأنّها، مهما غرّتها أبواق الدّعاية الداخلية والخارجية، ومهما علت تلك الحصون التي يأوون إليها، مُفلسةٌ في داخلها، تستميت من أجل الدفاع عن نموذج حضاريّ يلفظ أنفاسه في كلّ عام مرّة أو مرّتين، اهترأت آليات عمله أو كادت رغم كلّ المليارات التي تُضخّ من أجل إنعاشه، ويفقد إنسانيّته موقفا بعد موقف، رغم كلّ الشعارات الإنسانية التي يزيّن بها صدره، حتّى بات بعض روّادهم من بني جلدتنا يسأل "لماذا تنتحر الحضارات الجميلة"؟… ويكتب صحفيّهم هنالك عن الانتحار الفرنسي "Le Suicide français".

الأصل في عملية المعارضة والترجيح أن يُحمل ذلك النّص المُعارض لما هو أصحّ منه على أنّه قضيةُ حالٍ، أي موقف خاصٌّ له ظروفه وملابساته التي تُضفي عليه الخصوصيةَ وترسم الحدودَ لدائرة فعاليته.

إنّ ما نراه من مظاهر التطرف أو التنطع لدى بعض الناس هنا أو هناك، هو في الغالب مظهر غريب عن ثقافتنا وديننا، وهو نتيجة طبيعية لعمليات الإذلال والتسلط التي مُورست في مواطن كثيرة من أرضنا، إلى الحدّ الذي ولّد في الناس ردود أفعال غريبة سيكون الزمان كفيلا بإذابتها وسط ما تتسم به التعاليم الإسلامية من تسامح وإنسانية لا يمكن أن يشكّك في عمقها أحدٌ.

ما أضرّ بالدّين مثلُ نصف عارف… وأكثر منه ضررا، مُدّع للمعرفة وبضاعته فيها مزجاة، مع ضِيقِ أُفقٍ وقلّة ذكاءٍ، فلا معرفتُه تُسعِفه بالحلول الحكيمة، ولا ذكاؤه يُسعِفه بشيء من سعة الأفق حتّى يتصوّر الحقّ في غير ما يعرف… ولذلك ترى مثل هذه الشخصيات واقعةً في شراك ما تعرف، مُتّخذةً إيّاه حجابا يمنعها من إدراك ما لا تعرف…

إنّ ممّا لا يُدركه بعضُ أدعياء المعرفة أنّ الحديثَ غيرُ السّنة… وأنّ الخبرَ الواحدَ لا يؤسّس مَنهَجا ولا يَبْني سُنّة، فما بالك إذا جاء هذا الحديث معارضا لما هو أصحّ منه قرآنا وسنّة.. أدرك ذلك سلفُنا حين فرّقوا بين الأمرين فقال عبد الرحمن بن مهدي مثلا: سفيان الثوري إمامٌ في الحديث وليس بإمام في السنة، والأوزاعيُّ إمام في السّنة وليس بإمام في الحديث، ومالك بن أنس إمام فيهما جميعا… (ابن عساكر: تاريخ دمشق: 35/ 183)

إنّ أصل السّنّة الطريقة… وسنّة الرسول صلى الله عليه وسلّم هي طريقته التي أسّسها قولا وفعلا وإقرارا… ولا يُمكن للسنة أن تُبْنَى بحديث واحد إذا كانت بقية النصوص القولية والمواقف العملية تعارضه… والأصل في عملية المعارضة والترجيح أن يُحمل ذلك النّص المُعارض لما هو أصحّ منه على أنّه قضيةُ حالٍ، أي موقف خاصٌّ له ظروفه وملابساته التي تُضفي عليه الخصوصيةَ وترسم الحدودَ لدائرة فعاليته.

"لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا. إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا"
إنّ الحديث الواحد لا يؤسّس منهَجا معارِضا للمَنهج الذي تبنيه مئات الأحاديث المتقدّمة عليه في صحّة السّند والشّهرة وتعدّد الوقائع… وإذا استبانت هذه المقدّمات، فإنّ مقتضى الأدب الرباني والخلق النبوي، معاملة الناس بالعفو والرفق ولو كانوا مخالفين، بل ولو كانوا أعداءَ محاربين… يدلّك على ذلك مئات الأدلة في الهديين الرباني والنبوي: فأما هدي الله فهو أوضح من أن تقام عليه حجّة، ولكن المقام مقام بيان، فلا بدّ من ضرب الأمثلة الصريحة وهي كثيرة منها قوله تعالى:
"وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ" (الأنبياء: 107).

"وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" (البقرة: 109).

"وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران: 133، 134).

"فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (المائدة: 13).

"لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا" (النساء: 148، 149).

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.