شعار قسم مدونات

في نيشابور.. اصمت أيها الثرثار وابحث عن الأسرار

blogs - القبة الزرقاء في نيشابور
"هفت شهر عشق را عطار گشت. ما هنور اندر خم یک کوچه ایم"
"لقد طاف العطار مدن العشق السبع، وما زلنا نحن في منعطف طريق واحدة". مولانا الرومي

مرتان، زرت فيهما مدينة نيشابور.. وفي المرتين كنت على عجل، لكن الأخيرة طبعت في داخلي كنقش، كنت قد وصلت مع المساء إلى قبر العارف فريد الدين العطار (صاحب منطق الطير)، كان الغروب يضفي رهبة على المكان، فيما تغادر الشمس تاركة بقايا ضوء في جنبات الحديقة الجميلة ذات المعمار الفريد. 

توجهت نحو تلك القبة الزرقاء المزينة بخط كوفي.. كان المكان خالياً.. أو هكذا ظننت، فما إن دخلت حتى التقت عيناي بوجه رجل طاعن في السن يقرأ الفاتحة عند القبر.. ثم يجلس في الزاوية متربعاً على الأرض، فعلت مثله، قرأت الفاتحة وجلست على الأرض..

دون أن ينظر، قال لي: أنت غريبة…
قلت: نعم.
ودون أن يرفع بصره قال بنبرة موقنة: جئت من بعيد.
أجبته: نعم.. لكن، لا البعيد يبقى بعيداً.. ولا القريب يبقى قريبا.. البعيد عنك قريب من غيرك.
أسند ظهره إلى الجدار وباغتني بالسؤال: لستِ عابرة.. جئتِ في إثر العطار؟
قلت: ربما!
رد وابتسامه تعلو وجهه: لا يوجد ربما. بل جئتِ في أثره.. لقد اتبعت الإشارة فحملتك إلى هنا.. الناس (السياح) في الغالب، يأتون في النهار يلتقطون الصور ويغادرون.. لا يأت مع الغروب إلا محب، وإن كان على عجل..
العشق هو أطول وادي يسير فيه العاشق، هو معيار البحث والركن الأهم في الطريقة، يصعب شرحه وقد يتعذر تعريفه تعريفاً كاملاً وكما يقول مولانا: معنى العشق، هو العشق. والعشق في التصوف يقابل العقل في الفلسفة.

وأنتَ؟ محبٌ أيضا؟
أنا ما زلت أعبر وديان العشق كما يسميها صاحب منطق الطير أو مدن العشق كما يسميها مولانا الرومي.. وأنتِ إلى أي مدينة من تلك المدن السبع وصلتِ؟
تنهدتُ وأجبته.. ما زلتُ أتحضر.. لم أدخل "وادي الطلب" بعد.

رد مشفقاً: من التبتل إلى الفناء.. سير وسلوك طويل نحو الله، لا ينفع التردد، لا وصول بدون الطلب، في تلك المدن السبع: الطلب يفضي إلى العشق والعشق يدخلك في المعرفة، والمعرفة تقود إلى الاستغناء والاستغناء إلى التوحيد، والتوحيد إلى الحيرة، والحيرة تعبرها نحو الفقر، الفقر والفناء‏.

استوقفته… على رسلك أقول لك ما زالت مترددة لم أخطو نحو "وادي الطلب"، وأنت تمطرني بأسماء أودية العطار التي تحدث عنها هو واصفاً إياها صعودا وهبوطاً، في سير وسلوك صعب.. "وإذ تخطو إلى وادي الطلب، سيعترض طريقك في كل زمان مئة تعب.. ومائة بلاء..".
ابتسم وقال ألستِ على عجل؟!
قال أودية العطار، تقارب مقامات التصوف السبعة: التوبة والورع والزهد والفقر والصبر والرضا والتوكل. وحالات عشر هي: المراقبة والقرب والمحبة والخوف والرجاء والشوق والأنس والاطمئنان والمشاهدة واليقين.

قلت دعنا نعود إلى وادي الطلب.. ما هو؟
الطلب هو البحث، وفيها يعبر الطالب تاركاً الشهوة واللذة، طمعاً في كشف ستار الحقيقة، مغادراً الكثرة نحو الوحدة.. وعنه يقال: الانشغال بذكر الله ليل نهار.. والطلب هو أول خطوة في طريق التصوف.

وماذا عن ثانيها، العشق؟
هو أطول وادي يسير فيه العاشق، هو معيار البحث والركن الأهم في الطريقة، يصعب شرحه وقد يتعذر تعريفه تعريفاً كاملاً وكما يقول مولانا: معنى العشق، هو العشق. والعشق في التصوف يقابل العقل في الفلسفة. في وادي العطار هذا يكون العاشق ملتهب القلب…وما أن يقبل العشق حتى يولي العقل هارباً…

كان عليَّ أن أمضي، نهضت وهذا الحديث المليء بالأسرار يحيط بي كهالة من سحر… استوقفني للمرة الأخيرة، قال افتحي كفك: أخرج من جيبة قطعة فيروز زرقاء جميلة، ووضعها في يدي.

وثالثها، المعرفة أي معرفة؟
ابتسم الشيخ الودود وقال: ألم أقل إنكِ على عجل.. المعرفة هي العلم، لكنها في وادي العطار، من نصيب من عرف أسماء الله وصفاته وصدق بها تصديقا كاملاً، وجعلها رقيباً على كل أحواله في السر والعلن. لكن وكما يقول العطار: "الطريق تتضح للسالك على قدر ما يبذل من طاقة.. فانهض ولا تجلس، امض بحثاً عن الأسرار".

ودون أن ينتظر سؤالي انتقل إلى الاستغناء، وقال: هو أن "لا ترغب في شيء مطلقاً"، ثم إلى التوحيد: "تقبل عليه فيقبل عليك منزل التجريد والتفرد".
وأما وادي الحيرة، جعلك الله تعبرينه بسلام، فهو أمر يصيب قلوب العارفين في موقع التأمل والحضور فيحجبهم عن التأمل، ويصاب صاحبه بـ"الألم والحسرة" وفيه "يظن الحيران أن قلبه يقطر دماً، لا من نصل…"

لكنه إذ يصل وادي الفقر والفناء، فإنه يصل إلى حقيقة الغنى، إذا أن الفقر هنا يعني "سقوط الصفات المذمومة" فلا يعود محتاجاً لشيء.. ويستغرق في علم الملكوت، ويكون فناؤه بقاء. ذلك هو الفناء الحقيقي.

كان عليَّ أن أمضي، نهضت وهذا الحديث المليء بالأسرار يحيط بي كهالة من سحر… استوقفني للمرة الأخيرة، قال افتحي كفك: أخرج من جيبة قطعة فيروز زرقاء جميلة، ووضعها في يدي..

– في المرة القادمة تعالي متمهلة.
وأنا أغادر نيشابور العامرة كانت كلمات العطار تأتي كنداء خفي: "وقلت لقلبي: أيها الثرثار، لقد تكلمت كثيراً، فاصمت وابحث عن الاسرار".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.