شعار قسم مدونات

الرومانتيكية والواقعية.. عندما تصبح القراءة حربًا ضارية!

blogs - hugo

في الأيام الماضية كنتُ أفكر كثيرًا في كلمات الدكتور شادي عبد الحافظ التي ألقاها في Ted.. لا يجب علينا أن نتخيل عملية القراءة على أنها كرسيٌّ، وبحر، وكتاب، وفنجانٌ من القهوة، كما أن القراءة ليست وسادةً أو سريرًا، ليس هكذا تُقرَأ الكتب! ثم أشار بعد ذلك إلى رحلته في الحصول على العلم التي تمثّلت في السهر على المراجع العلمية ومحاولة فَهم الرموز والطلاسم الموجودة في الكتب، كان يحارب لكي يفهم أكثر الأفكار اختزالية وتعقيدًا ومغايرة للحسّ البديهي، تمامًا مثل حروب ريتشارد فاينمان التي خاضها طويلًا في محاولة القراءة والتعلم.. كنت أتذكر محاضرة د. شادي وأنا في خِضَمّ قراءة هذا الكتاب الرائع -واجهتُ صعوبة في مقاومة رغبتي في نعتِه باللعين-، فقد قضيتُ فيهِ أسبوعَين كاملَين أنقِّب فيه وأحفر وأعصر عقلي عصرًا من أجل فَهمه واستيعابه..

الكتاب كان عبارة عن "نقد أدبي" لمجموعة من الكُتّاب العالميين، يتضمنهم دوستويفسكي، جورج برنارد شو، هنريك إبسن، أنطون تشيخوف، شارل بودلير وغيرهم، والكتاب يحكي بطرقة عنجهية -يبدو أنني قد أصابتني العدوي- ويلوِي أعناق الكلمات ويزيد فوق تعقيدها تعقيدا. والمؤلف -واسمه يانكو لافرين- هو كاتب وناقد من أصل روسي عاش في إنجلترا وقام بالتدريس وإلقاء المحاضرات في العديد من جامعاتها مثل أكسفورد وكمبوردج، وواضحٌ أنه يتمتع بثقافة واسعة في الكثير من المجالات، فهو ملمّ بالأدب والفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع بكل تفرّعاتهم.. ومن أهم كتبه "التعريف بالرواية الروسية"، "نيتشه والوعي الأوروبي"، "دوستويفسكي ومؤلفاته"، "تولستوي ومؤلفاته"، وغيرها، ولا أحسبها جميعًا إلى غزيرة بالمعلومات الثمينة والملاحظات النابهة مثل الكتاب الذي بين يديّ: "الرومانتيكية والواقعية: دراسات في الأدب الأوروبي".
 

لا يكفي مجرد الاستمتاع بقراءة الروايات الرومانسية والبوليسية، بل يجب أن نتوغّل في الكتب التي تمدنا بالمعرفة والثقافة المناسبة التي تساعدنا في تكوين رؤية ومنظورًا معقولًا عن العالم من حولنا.

وكان المؤلف يصيغ عباراتٍ ربما لا تجد لها معنيً وتفكر بأنه يهذي ويثرثر.. لكن مع قليل من البحث والتنقيب ومع قدرًا لا بأس به من التأمل والتفكير يتضح لك مغزى هذه الكلمات.. والكاتب يفترض أن يعرف القارئ ما هو "الليبيدو" وما هي "البرجسونية"، وربما ستثور كما ثُرتُ عندما تقرأ قوله "ولكن لم تتغير لهجة تشيكوف حينما يتناول الفاشلين.. (همالتة) الحياة الروسية الذين لا عِداد لهم"، وهو في قوله "همالتة" يشير إلى (هاملت) بطل مسرحية شكسبير، حيث يقول أن السِمَة الغالبة على هؤلاء الروس كانت التردد والصراع النفسي الذي يؤدي بهم إلى العجز وشلل الإرادة، تمامًا مثل شخصية (هاملت) "الشكسبيرية" -ههه معذرة لم أقاوم!- لا أعرفُ لماذا يعقّد الأمور بهذه الطريقة.. لماذا لا يقولها دُفعة واحدة دون رموز أو إشارات ويكتُبُ كما لو أنه حكيمٌ صوفيّ! وربما لولا عَون المترجم-  الذي كان يشترك معه معظم الوقت في نفس الجريمة – لخارت قوايَ عن ملاحقة ذلك الكاتبُ الثائر. – هذه المرة كنتُ أريد نعته بالمجنون-.
 

ولعلّ من أبرز الأشياء التي ميَّزت الكاتب هو رصده الدقيق لحياة الكتّاب والأدباء، فهو يتوغل داخل نفوسِهم ويكشف عن أفكارهم ويُعرّيهم من الكلمات والشخصيات والروايات ليكشف عن مكنون مشاعرهم ورغباتهم.. كما يأتي بالنادر وغير المعروف من كتاباتهم أو رسائلهم ليؤكد صحة كلماته.. لكن مع لغته الصعبة وكلماته المثيرة للإزعاج، فإنني استفدتُ كثيرًا، وهذه هي الغاية من القراءة.. فلا يكفي مجرد الاستمتاع بقراءة الروايات الرومانسية والبوليسية، أو قصص الرعب ومصاصي الدماء، بل يجب أن نتوغّل في الكتب التي تمدنا بالمعرفة والثقافة المناسبة التي تساعدنا في تكوين رؤية ومنظورًا معقولًا عن العالم من حولنا.. وقد كانت تجربة عسيرة كما كانت ممتعة، وكان كتابًا لعينًا كما كان رائعًا، وهذا هو الكتاب الأول الذي أقرأه في النقد الأدبي.
 

إن د. شادي لا يمزح حينما يربط بين القراءة والكون في توسّعه الذي لا يتوقّف، فقد تظن بأن المجرات لا تتحرك، لكنها تبتعد عن بعضها بسرعة كبيرة لأن المكان نفسه يتحرك وليست هيَ، كذلك القراءة، إنها الوسيلة الأسهل للانتقال من حالةٍ إلى أخري، لمستويً آخر من التفكير والتأمل، تظن أنك لا تتقدم للأمام أبدًا، لكنك – فعلًا – مع كل سطر جديد في كتابٍ جيد تبتعد عن الآخرين من حولك بسرعة كبيرة، يبتعد مستوي تفكيرك وكذلك مستوي أدائك للوظائف جميعًا، ذلك لأن ذاتك تكبر في داخلك بينما حجمك هو هو.. أنتَ مجرةٌ تقرأ! .. هكذا تكلّم شادي.
 

إني أحسّ كما لو كنتُ قد سقطتُ فوق هذه الأرض من كوكبٍ آخر كنتُ أحيا به من قبل.. كل ما ألاحظه في العالم الخارجي لا يبعث في قلبي سوي الألم والحسرة وحيثما أدير ناظري، فإني أجد فيها ما يثير الغضب والنقمة أو يبعث على الألم والحسرة.

وكان هناك الكثير لأقتبسه من حياة أولئك العظماء التي أوردها المؤلف في كتابه، إلا أنني نسيتُ حقيقةً أن أدوِّنها لانشغالي بمحاول فَهمِها أساسًا! لكن أكتفي باقتباس واحد لـ (جان جاك روسو)، وهو اقتباس يدفع إلى البؤس والكآبة، وربما دفعك إلى الانتحار فور انتهاءك من قراءتِه، لذا أنصحك بإنهاء القراءة هنا.. وأقدّر بلوغك هذا السطر.. أراك لاحقًا في مقالٍ آخر!
 

"ونظرًا لطبيعة روسو التأملية، لم يعد يجد أية متعة في الالتقاء بالناس والأشياء ولم يكن يستطيع أن يستمتع بهم إلا في الذكريات، ومن خلال الذكريات التي كان يعيد صياغتها عادة على النحو الذي يجعلها تلائم احتياجاته الذاتية. ولم يصل ضياعه واستبطانه المغرور إلى حدهما الأقصى إلا حينما كتب يقول في كتابه "أحلام يقظة جوّال وحيد": (إن كل ما يقع خارج ذاتي إنما هو أجنبيٌّ عني، لا يوجد لي جيرانٌ في هذا العالم ولا أخوة.. لا أحد يشبهني.. إني أحسّ كما لو كنتُ قد سقطتُ فوق هذه الأرض من كوكبٍ آخر كنتُ أحيا به من قبل.. كل ما ألاحظه في العالم الخارجي لا يبعث في قلبي سوي الألم والحسرة وحيثما أدير ناظري فيما يحيط بي ويتصل بنفسي من الأشياء، فإني أجد فيها -دومًا- ما يثير الغضب والنقمة أو يبعث على الألم والحسرة!
 

وحيدًا يجب أن أعيش بقية حياتي، فما دمتُ لا أجدُ الأمل والسلام والعزاء إلا في قرارةَ نفسي فلا يجب بل ولا أريد بعد، أن أشغل نفسي بشيء سوي ذاتي). بالمناسبة، هذا الكتاب الثمين اشتريته بجنيهين فقط من الهيئة المصرية العامة في معرض القاهرة للكتاب، حدّثني صديقي حينها أنني سأتقاعس عن قراءة كتابًا بهذا الثمن، لكنني قرأته بعناية لم تعهدها أثمن كتبي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.