شعار قسم مدونات

الدجال يحكم..

blogs جهاز تحكم

كانت المعركة قد بدأت لتوها، والجميع يتقاتلون ما بين ضارب، وطاعن، تتساقط الأشلاء هنا وهناك، ومع أصوات اصطدام السيوف، وصرخات المقاتلين ارتفعت رويدا رويدا موسيقى حربية تبعث في نفس المشاهد رهبة، وفي جسده قشعريرة. لكن كل الدماء التي سالت، والرؤوس التي قطعت، والأجساد التي تساقطت، كل الآهات والصرخات.. – حتى إن الجندي الذي ضرب بالسيف في قدمه، وخرجت منه صرخة غريبة ضحك على إثرها الجميع -.. كل هذا كان مجرد خلفية لما هو أهم.

كانت الكاميرا تجول على استحياء هنا، وهناك لكن هدفها الوحيد كان من صنعت من أجله تلك الخلفية -البطل ليس سواه- هو ما ركزت عليه الكاميرا، ونسيت ما دونه، هو من تعلقت به كل العيون، هو من امتلأت قلوب المشاهدين شغفا به، وبتحركاته، وأهملت ما سواه. كانت تتلاشى الخلفية من كادر الكاميرا شيئا فشيئا الى أن انتهت منهم جميعا، وركزت على البطل، وهو يجثو على ركبتيه، غارقا في دمائه، تعلو وجهه نظرة موت في الحين الذي تبدلت فيه الموسيقى الحربية بأخرى حزينة.

كان البطل يدرك تماما أن نهايته قد حانت ليترك بذلك في نفس المشاهد هما وغما وحزنا.. وتسقط دمعة. هذا بالتأكيد ما أراده المخرج.. أن نركز على مصير البطل ونسيان ما دونه، أن يبقى أحدهم مميزا يخطف القلوب، والأنظار، وجميع ما عداهم توافه لا قيمة لهم حتى إننا ربما نضحك من موت أحدهم إثر صرخة غريبة. لم ولن يهتم أحد بالآلاف الذين ماتوا أو قتلوا، مع كم الويلات والمآسي التي تعرضوا لها.. فقط البطل إذا نجا فرح الجميع، وإذا مات تسود الدنيا.
 

السينما، وخاصة في الغرب كانت من أسباب تغطية الكثير من الأخطاء السياسية، أو ربما حذف، وتغيير حدث هام في التاريخ فقط لتمكين الساسة من زمام الأمور

ومن هنا صنع المخرج قطيعا من الدراميين الذين يتأثرون بسحر موسيقاه، ولا يدركون شيئا من الحقيقة، ولأن العقول أصبحت فارغة، والقلوب أصبحت ضعيفة إذا أرادنا المخرج أن نكره أحدا سنكرهه، وإذا أرادنا أن نحب أحدا سنحبه رغما عنا.

السينما، وخاصة في الغرب كانت من أسباب تغطية الكثير من الأخطاء السياسية، أو ربما حذف، وتغيير حدث هام في التاريخ فقط لتمكين الساسة من زمام الأمور. في أمريكا، وفشل حروبها على الإرهاب في العراق، وأفغانستان ربما تعالج السينما ذلك بإظهار الجندي الأمريكي على الشاشات كخارق ليس له مثيل.. قليل من المسكنات لتهدئة الأجواء، واحتواء القطيع. المشكلة بالطبع ليست في عمل فني نتفق أو نختلف عليه، وعلى المخرج، وكيفية إدارته للأمور.. المشكلة أكبر بكثير.

هناك على مسرح الحياة حيث دولة الدجل، والخرافة، وتبرير الظلم، وتجميل القبيح. هناك في بلادنا التي يكرهها النور، وتعشق الظلام. هناك حيث يتربع الدجالون خلف الشاشات يتفننون في غسل الأدمغة، والعبث بالمعتقدات، والثوابت، وقلب الحقائق رأسا على عقب. تقسم بينهم الأدوار بدقة تامة فأحدهم يسرب الفكرة، وآخر يناقشها، وثالث يؤيدها، ورابع يدعو لتطبيقها حتى تجد الفكرة في اليوم التالي قرارا يهلل له الضالة من القطيع.

هناك في البيت الكبير يسكن الدجال الأكبر، يتربع على عرشه، وعلى وجهه ابتسامة خبيثة، وزبانيته خلف الشاشات ينفثون سمومه، وأكاذيبه التي من شأنها خدمة نظامه، وحفظ أمانه. ولازال القطيع أمام الشاشات فاتحا فاه، ينتظر المزيد، ولازال الدجال يخدرهم، ويضعهم في حالة من الفوضى، والخوف، والذعر ليجد بذلك طريقا سهلا لتمرير أي فكرة ولو كانت مستحيلة إلى عقولهم الضالة.. أحيانا يرسخ أفكارا لحماية كيانه، وأحيانا يهدم أفكارا تعاديه.. كل الأفكار التي من شأنها توعية القطيع، وإبراز الحقائق.

وحتى إن كانت الأفكار لا تهدم ببساطة فإن أسهل طريقة لهدمها هو هدم صاحبها، وتشويه صورته حتى يبدو بلا قيمة فتندثر الفكرة، وتموت، ليبقى الدجال. الأسوأ من ذلك أنهم ليسوا فقط قادرين على التحكم في العقول، وامتلاك المشاعر بل إنهم يدفعون الضال لكراهية أخيه، والتحريض عليه، والفرح بإيذائه أو موته.
 

إنني يا سيدي لست هامشا أتاك ليكمل نقصا في قطيعك، إنني بطل في نفسي، بطل في صمتي، بطل في سجنك، بطل في قبري ورصاصك في صدري. دعني يا سيدي في سلام أتحرر منك، من وطني، من كل الأشياء التي تربطني بك.. لك القطيع ولي عقلي

الدجال الأن يسكن كل بيت، يسكن كل عقل، والقطيع بملامحهم، وجباههم التي ترشح فقرا، وبؤسا يملؤن الطرقات فرحين بغيهم، وضلالهم يهللون للدجال، ويسبحون بحياته، ويتغنون باسمه.. لتبقى بهم دولة الظلم، والفقر، والجهل، وتبدو الحياة كمستنقع كبير لا يصلح للحياة. إننا هنا نعيش أسوء مراحل حياتنا… تلك المرحلة التي أصبح فيها الوعي نقيض الحياة.. أن تعي تموت.

صديقي في المرآة المشروخة كان يهذي البارحة ويصرخ: "يا سيدي الدجال الذي يحكم البيت الكبير إنني هنا أتعفن في نفسي مللا من زيفكم، وكذبكم، وخداعكم، والقطيع في كل مكان يرمقني بشرر. جد لي حلا.. جد لي في جراب حاويك الذي يلبس عباءة الدين فتوى تبيح نفيي، وحرماني من شرف العيش في مدينتكم.. مثلي يا سيدي عار عليكم.. شاخ الزمان، وعمري يطاردني، والأشياء كلها تبدو هنا باهتة، واعتناقي الصمت يقتلني.

إنني يا سيدي لست هامشا أتاك ليكمل نقصا في قطيعك، إنني بطل في نفسي، بطل في صمتي، بطل في سجنك، بطل في قبري ورصاصك في صدري. دعني يا سيدي في سلام أتحرر منك، من وطني، من كل الأشياء التي تربطني بك.. لك القطيع ولي عقلي.. لك القطيع ولي عقلي." 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.