شعار قسم مدونات

الانهزام النفسي واليوتوبيا الجغرافية

blogs - people

يقول ابن سينا إنّ الوهم هو نصف الداء، في حال الحديث عن المثقف العربي اليوم ربّما يمكننا القول إنّ الوهم هو كلّ الداء.
 

(1)
في كتابه مآلات الخطاب المدنيّ يصف إبراهيم السكران كمية الانهزام النفسي تجاه الغرب التي يعاني منها بعض مثقفي العرب من دعاة المدنيّة واللّبرلة ب "غربنة الغرب"، إذ يصف محاولات أولئك في إسقاط كل ما يتخيلونه من صفات الدولة الجيدة والمتقدمة والأخلاقية على الدول والمجتمعات الغربية حتى وإن كانت هذه الصفات بعيدة جداً عن أن تصف تلك الدول بهذا المصطلح، إذ يصبح الأمر أشبه بإنشاء غرب جديد في أذهانهم أكثر تطوراً وانسانيّة أشبه ما يكون بيوتوبيا توماس مور.

وفي الحقيقة يمكننا القول أن مصطلح غربنة الغرب يقع تحت ظلّ ما يسمى بالجغرافيا المتخيلة أو التصوريّة الذي طوره إدوارد سعيد والذي يعني بناء الشخص -أو العقل الجمعي على مستوى أوسع- لحيّز أو جغرافيا في ذهنه وإطلاق حكم معين عليه بناءً على مجموعة من الصور والانطباعات، وهو ما وظفه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق عندما استخدم مصطلح "شرقنة الشرق" في وصف محاولات إسقاط كل الصفات الدنيئة على المجتمع الشرقي فينشأ عن ذلك شرق جديد متخيل متخلف وقذر أكثر مما هو عليه في الحقيقة.

خطورة "غربنة الغرب" و"شرقنة الشرق" لا تكمن في كتيبة المثقفين الفارغين الحالمين فحسب بل بتأثر جزء كبير من البنية الاجتماعية والثقافية لمجتمعاتنا في هذا الاتجاه الفكريّ.

وبذلك أصبحت الحياة في الغرب هي جنّة الله على الأرض، والحياة في الشرق هي غضبٌ منه وسوء عاقبة.

ويمكن إحالة كل هذه المصطلحات والأشكال الفكريّة إلى مفهوم المجتمعات المتخيلة لبندكت أندرسون. وفي الحقيقة إدراك هذه المفاهيم يقودنا إلى فهم أمور كثيرة كربط الإرهاب بالمجتمعات المسلمة والشرقيّة ولماذا أصبحت الحرب على الإرهاب توجه دوليّ وقوميّ. ولكن هذه قصة أخرى.
 

(2)
إنّ خطورة "غربنة الغرب" و"شرقنة الشرق" لا تكمن في كتيبة المثقفين الفارغين الحالمين فحسب بل بتأثر جزء كبير من البنية الاجتماعية والثقافية لمجتمعاتنا في هذا الاتجاه الفكريّ.

هذا يجعل المثقف العربي الذي تلتمع عيناه عند ذِكر أي منجز حضاري غربي أو قيمة مجتمعية غربية يشكل خطراً حقيقياً يقوّضُ بُنى مجتمعاتنا العربية المحافظة. فالمثقف الذي يشعر بالانتماء إلى معجزة الحداثة الغربية أكثر من دينه ووطنه وقومه مستعد أن يتخلى عن أمور مهمة كثيرة -مجتمعيّاً وثقافيّاً-؛ لذا حُقّ لنا أن نصفهم بالمنهزمين.

إلا أن هؤلاء المنهزمون وبسبب ركاكة مجتمعاتنا بإمكانهم أن يهجموا هجمةً قويةً كالضواري تشوّه ما بقي في مجتمعاتنا من قليل التزامٍ وقيم كانت على مدى التاريخ هي ما تميزنا.
 

(3)
ما أسباب هذا الانهزام؟ هنالك أسبابٌ كثيرة تدفع عقلنا الواعي واللاوعي إلى التفكير بهذه الطريقة، منها: 1) فقدان السيادة العربيّة الحقيقية .2) فقدان النموذج الحيّ والمكتمل على إمكانية "النجاح الشرقيّ الإسلامي" مما يجعل الإيمان بأنّ الشرق ليس أسوء مما يبدو يحتاج إلى الكثير من المجاهدة للعقل الجمعي السائد ويحتاج إلى الكثير من البحث أيضاً.3) الكثير من العرب لم يسافروا أصلاً إلى الغرب، بإمكان هذا أن يعزز جانب الخيال عند العربي في تكوين اليوتوبيا الغربيّة الخاصة به في ذهنه مما يوصلنا إلى "غربنة الغرب".

التخلي عن الدين يجعلنا نفقد القدرة على الحكم، ذلك لأنّ التخلي عنه يعني التخلي عن المرجع والمرد، فلا يبصر "المثقف" شناعة السماح لدولة ما بزواج المثليّين مثلاً بل قد يعتبر هذا قمة في الحريات.

وأيضاً هذا العربي نفسه حبيس وطنه العربي الذي يعاني فيه الجوع والظلم وكبت الحريات مما يحمله على لعن حياته في هذا الوطن وكرهها والحاجة إلى الإيمان بوجود بقعة أفضل على وجه هذا الكوكب ومن ثمّ ممارسة شكل من أشكال الجغرافيا المتخيلة وبالنهاية "شرقنة الشرق" . 4) المنتجات السينمائيّة الغربيّة التي تصور الغرب على أنّه المخلّص للبشرية من ظلم البشر الآخرين وحتى من الفضائيين، وصدق من قال أنّ " مادح نفسهِ كذّاب". 5) فقدان الثقة بحاكمية الدين وبالله تعالى، وهذا من أهم الأسباب.

فكيف لمن لا يؤمن بالتالي من الآيات أن يطمئن بوجود الخلاص وأن ما تمرّ بالأمّة من الانحطاط إنما هو إعدادٌ لها وغربلةٌ للفاسدين منها: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي، إن الله قوي عزيز" (المجادلة،20) و"وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ" ( محمد،31) و"كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" (آل عمران، 110) .

التخلي عن الدين يجعلنا نفقد القدرة على الحكم، ذلك لأنّ التخلي عنه يعني التخلي عن المرجع والمرد، فلا يبصر "المثقف" شناعة السماح لدولة ما بزواج المثليّين مثلاً بل قد يعتبر هذا قمة في الحريات.
 

إنّ هذا الاتجاه يخفي عقدة كامنة ناجمة عن الحرمان والظلم العام الذي عانته مجتمعاتنا التي أنجمت فجوة هائلة بيننا وبين الغرب، لكن الهرع إلى ملء هذه الفجوة بكل ما هو غربيٌّ وضار ولعن المجتمعات الشرقيّة العربية المسلمة دون عمل على إصلاحها والغرق في الوهم الذي لا يستند إلى حقائق، لن يزيد الطين إلا طينيّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.