شعار قسم مدونات

هل أوشكت الدولة على تضييع فرصة التصالح؟

BLOGS - علم المغرب
بدأت احتجاجات ساكنة مدينة الحسيمة المغربية التي تعد أشهر مدن ما يعرف بمنطقة الريف المغربية في أعقاب مقتل بائع السمك المغربي "محسن فكري"، طحناً في شاحنة نفايات، بعدما قام رجال الشرطة برمي أسماكه في شاحنة نفايات بحجة أن السمك الذي بحوزته ممنوع اصطياده وبيعه في تلك الوقت من السنة، وهو ما دفعه (محسن فكري) إلى إلقاء نفسه في الشاحنة احتجاجا على مصادرة سلعته. 
 
كانت تلك الشرارة الأولى التي أخرجت في البداية ساكنة مدينة الحسيمة ومدن الريف للاحتجاج، كما شهدت مدن مغربية عديدة مظاهرات مشابهة، حيت تجاوزت مطالب هذه الاحتجاجات قضية محسن فكري لتطالب بالعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والريع ورفض سيطرة اقلية مخزنية (تحالف عائلات برجوازية وسياسية وأمنية وعسكرية واقتصادية ودينية مرتبطة بالبلاط) تسيطر على كل مناحي الاقتصاد الوطني كما هي سيطرتها على القرار السياسي.

وإن كانت حدة هذه الاحتجاجات قد خفُت بعد إعلان الحكومة فتح تحقيق في وفاة الشاب محسن فكري وأيضا بعد إطلاق مجموعة من الوعود لتحسين ظروف صغار الصيادين وتخفيض أسعار بعض أنواع الأسماك الشعبية، فقد عرفت هذه الاحتجاجات تطورا خطيرا تسبب به صدور بلاغ تم توقيعه من طرف أمناء عامين لستة أحزاب سياسية تشكل الأغلبية الحكومية التي يقودها حزب العدالة والتنمية (الإسلامي)، هذا البلاغ الذي اتهم الحراك الريفي بالعمالة وبتلقي تمويلات من الخارج وبالسعي نحو الانفصال والتشكيك في الوحدة الترابية للمملكة، كما اتهم البلاغ مطالب المحتجين بكونها زاغت عن طبيعتها الاجتماعية وتحولت لمطالب سياسية بدليل رفض المحتجين للحوار حسب لغة البيان.

لم يكن أمام نشطاء حراك الريف الذين راهنوا مند البداية على الدعم الشعبي لهم في أوساط ساكنة الريف وفي أوساط جميع المغاربة من أجل نجاح احتجاجاتهم وتحقيق مطالبهم، لم يكن أمامهم سوى الرد بمظاهرة عارمة اعتبرت الأكبر من نوعها في تاريخ الريف (200 ألف مشارك حسب معظم التكهنات)، تم تنظيمها في مدينة الحسيمة (18 مايو/أيار 2017) بعد أن دعا "ناصر الزفزافي" أحد النشطاء البارزين والذي يوصف بقائد حراك الريف، بعد أن دعا إلى إضراب عام موازي لهذه المظاهرة في كل مناطق الريف.

باستحضار لجميع الأحداث والحيثيات السابقة، يتضح أن حراك الريف كان مند البداية حراكا بخلفية اجتماعية، بينما تتحمل الدولة في ردات فعلها مسؤولية تسيسه خاصة حينما أوعزت لستة أحزاب يشكلون الحكومة في اتهام الحراك بالخيانة والانفصال.

لقد شكلت هذه المظاهرة فرصة لنشطاء الريف لدفع التهم الثقيلة عنهم والتي جاءت في بيان الأغلبية الحكومية وللتأكيد على مطالبهم الاجتماعية المتمثلة أساسا في توفير فرص للشباب العاطل عن العمل، توفير مستشفيات وجامعات بجميع التخصصات، ورفع العسكرة عن منطقة الريف (نسبة إلى ظهير كان قد صدر في نهاية خمسينات القرن الماضي 29 نونبر 1958 يعتبر فيها إقليم الحسيمة منطقة عسكرية، أي بعد حوالي شهرين من تزعم محمد سلام أمزيان انتفاضة 58-59).

بعد المظاهرة، عادت الدولة المغربية إلى لغة الجزرة من جديد وأرسلت وفدا وزاريا يتزعمه وزير الداخلية وقد قدموا وعودا للمنتخبين في مدينة الحسيمة تقضي باستجابة الدولة لمطالبهم، وبالتزامن مع ذلك سارعت الدولة في إعادة الروح إلى بعض المشاريع التنموية التي تم تدشينها سابقا من طرف ملك المغرب لكن تعطلت لأسباب يربطها نشطاء الحراك بالفساد وانعدام المحاسبة ولعدم جديتها، كما أطلقت الحكومة وظائف حكومية من أجل امتصاص بعض من أرقام البطالة المهولة في صفوف شباب منطقة الريف.

وفيما أصبح صبر الأجهزة الأمنية وصبر الأجهزة التنفيذية الفعلية ينفد، استمر نشطاء الحراك في أنشطتهم الاحتجاجية معتبرين أن كل هذه الحركات من الدولة هي مجرد ردود فعل وتعاطي غير جاد مع مطالبهم وقد طالبوا بحوار مباشر يجمع بين نشطاء الحراك وممثلين عن القصر بشكل مباشر، خاصة بعد أن ظهرت بوادر انتقال مسلسل الاحتجاجات إلى مدن مغربة خارج منطقة الريف.

في يوم الجمعة 26 ماي 2017، قاطع متزعم حراك الريف "ناصر الزفزافي" خطبة إمام الجمعة في أحد المساجد في الحسيمة بعدما اتهم الإمام بعدم الموضوعية عندما تنكر لجميع المطالب المحقة للساكنة متهما النشطاء ومطالبهم بـ"الفتنة النائمة التي لعن الله من أيقظها". كانت تلك هي الحلقة الأخيرة في هذه المواجهة المفتوحة بين نشطاء الريف والدولة التي لم تتردد هذه المرة في اعتقال عدد منهم وإصدار مذكرة بحث في حق "ناصر الزفزافي" أبرز وجوه هذا الحراك، نتج عن هذه الاعتقالات مواجهات استعمل فيها العنف عرفتها مدينة الحسيمة وقد امتدت لمناطق أخرى في الريف.

هل الدولة مستعدة لتعميق جراح الماضي وما سينتج عنه من خلق جيل جديد من الحاقدين على سلطتها من أبناء الريف؟ هذا الجيل الذي سيحمل دون محالة عقيدة رافضة للدولة ولمؤسساتها فيما لو لم يتم تغليب منطق الحوار والاستجابة للمطالب.

وباستحضار لجميع الأحداث والحيثيات السابقة، يتضح أن حراك الريف كان مند البداية حراكا بخلفية اجتماعية، بينما تتحمل الدولة في ردات فعلها مسؤولية تسيسه خاصة حينما أوعزت لستة أحزاب يشكلون الحكومة في اتهام الحراك بالخيانة والانفصال، وحتى إن كانت قيادات حراك الريف قد أخطأت التقدير في بعض من مواقفها وتحركاتها، فلا ينبغي للدولة أن تغلب المنطق الأمني الذي ظل حاضرا منذ بداية الاحتجاجات حينما سبقت وأن أرسلت مختلف القوات العمومية والأمنية للمدينة قبل وفد الوزراء الذي جاء لمدينة الحسيمة أخيرا بعد 6 أشهر من المظاهرات، ليعاود إطلاق وعود لا يوجد أي ضامن حقيقي لالتزام الدولة بتنفيذها.

إن أخطر خيار لا نتمناه للدولة أن تسلكه مع ساكنة منطقة الريف ومطالبها هو تغليب الحل الأمني على الحوار والاستجابة العاجلة للمطالب والقطع مع سياسات العهد البائد عهد وزير الداخلية السابق إدريس البصري الذي اتسم بالعنف والمواجهة المفتوحة بين الدولة ومواطنيها، حيث انعدمت الثقة بين الطرفين لدرجة أصبح هذا المواطن يعتقد بأن هذه السلطة وُجدت لكي تسلب حقوقه وليست بأن تسهر على حريته وكرامته.

قد تستطيع الدولة إخماد هذه الاحتجاجات بمنطقها الأمني، لكن ماذا عن المخاطر المحتملة لهذا الخيار عن مستقبل المغرب وصورته التي تحرص السلطات الرسمية على إعطائها نوعا من التميز في محيطها الإقليمي والعربي (الاستثناء المغربي)؟ فهل الدولة مستعدة لتداعيات أية مواجهة امنية مفتوحة مع ساكنة الريف عن طريق المزيد من الاعتقالات والحصار؟ هل هي مستعدة لكل الاحتمالات بما فيها ردات فعل سكان المناطق الأخرى؟ بما فيها الجالية المغربية في الخارج ذات الأصول الريفية؟ بما فيها الأطراف الخارجية التي سيرتفع احتمال تدخلها فيما لو تطورت الأمور إلى إلى الأسوأ ثم الأخطر!

هل الدولة مستعدة لتعميق جراح الماضي وما سينتج عنه من خلق جيل جديد من الحاقدين على سلطتها من أبناء الريف؟ هذا الجيل الذي سيحمل دون محالة عقيدة رافضة للدولة ولمؤسساتها فيما لو لم يتم تغليب منطق الحوار والاستجابة للمطالب بما يضمن توزيعا عادلا حقيقيا للثروة ليس فقط في منطقة الريف ولكن في جميع مناطق المغرب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.