شعار قسم مدونات

قوانين بالحبر السّرّي

blogs الذل

لا أعتقد أنّ هناك قوانينَ تكتب بحبرٍ سرّيٍّ فعلاً طالما أنّ القوانين مجموعة من القواعد تنظم الروابط الاجتماعيّة فهي موجّهة إلى المجتمع ولا يمكن أن تكون سرّيّة أو غير معلنة؛ لكنّ القوانين التي نتحدّث عنها هنا هي القوانين التي يحكم بها الاستبداد، ولعلّها أكثر القوانين المعمول بها في دولة الاستبداد، فهي عمليّاً أكثر مما كتب بالحبر الحقيقيّ ودوّن بالدّستور بكثير..  والكلام هنا عن الحبر السّرّيّ مجازيٌّ يقصد به القواعد والممنوعاتُ التي لم يصرَّح بها بشكلٍ رسميّ..

عندما كنّا ندرس في كلّية الشّريعة خارج الوطن، وكان لدينا كتبٌ للمنهاج الخاصّ بالكلّيّة، وعندما نريد الذّهاب إلى سوريا لقضاء الإجازة ورؤية الأهل، كنّا نحرص الحرصَ الشديد على عدم اصطحاب كثيرٍ من الكتب التي نعتقد أنّ النظام السوري لا يروق له محتواها أو حتّى اسم مؤلفها أو انتماؤه.. وكذلك فإنّ كثيراً من الطّلاب السوريّين الذين كانوا يطلقون لحاهم أثناء إقامتهم في لبنان يضطرون لحلقها عندما يعودون إلى وطنهم.

ورغم أنّ كلّ ذلك الخوف لم يكن مبرّراً قانونيّاً.. فلم يجرّم قانونٌ مثلاً حيازة الكتب الشّرعيّة، وكذلك فإنّه لم يحرّم في دستور البلاد إطلاق اللحية وغيرها من المظاهر التي تظهر الشخص بمظهر الالتزام الدينيّ..
 

لا شكّ أنّه في دولة الاستبداد التي لا يأخذ بها القانون تعريفه الصّحّي حيث مصدره هو المستبدُّ نفسه فالسلطات الثلاث بيده فإنّه لا يمكّن من ممارسة الاستبداد إلا من خلال منظومة كبيرة وكبيرةٍ جدّاً من قوانين الحبر السّرّيّ

وغير بعيدٍ من هذا المثال فلقد كان التجنيد الإجباريُّ في سوريا والذي يفرض على كلِّ الذكور الذين يبلغون سنَّ الثامنة عشر خير دليلٍ على الحظر غير المنطوق.. فلقد كان المجنّدون يوصون بعضهم بعضاً إيّاك والصّلاة، إيّاك وأن يشاهدك أحدٌ تصلّي.. إيّاك أن تتكلم في السياسة، وبالطبع كان الغالبية يستجيبون لهذه القوانين الصّامتة رسميّاً، فقد كان العديد ممن يشاهدون يمارسون "جريمة" الصّلاة تسجل ضدّهم جريمةٌ سياسيّة ويحاسبون عليها. صحيح أنّ القوانين صمتت؛ لكنّ الأصل في الاستبداد هو الحرمة ما لم يردْ دليلٌ واضحٌ على عدم الإضرار بسيادة المستبدِّ ونظامه.. وأن يخلوَ عن أيّ شيءٍ يمكن أن يكون تحدّياً للمستبدِّ (الإله) وشركاً به.

ولم يكنِ الأمر خاصّاً بفئة معيّنة بل بالشّعب كلّه فمن خلال المطالعة النظريّة لكثيرٍ من الوصايا التي كان النّاس يتواصون فيما بينهم بألا يرتكبوها، كألا يتضجّر فلان من الوضع المزري للبلاد وألا يشاهد فلان القناة الفلانيّة التي تعرض برنامجاً قد تسللت إلى بعض مفرداته النيل من قداسة المستبدّ ألّا يتكلّم عن أين تذهب ميزانيّة النفط مثلاً وبأيّ حقٍّ سجن فلان ولماذا يمنع كذا وكذا.. وإنّ الإتيان بأدلّة على هذه المحظورات مما لا يتّسع مقامٌ لذكره ولا يمكن ضبطه وتحديده، فقط يمكننا القول إنّه أكثر بكثير مما هو مثبّتٌ ومقيّد.. ويمكننا القول أيضاً إنّ كثيراً من المحظورات مزاجيّة قد تتعلّق بالزمان والمكان والأشخاص فما قد يسجن فلان بسببه قد لا يفعل مع الآخر ويبقى ذلك تبعاً لمزاجيّة المستبدّ الطّاغية… وتبعاً لاستمراء العبوديّة الذي تظهره الرّعيّة فكلّما اسْتمرِأت العبوديّة ابتدعت محظورات أكثر خصوصيّة.

ولا شكّ أنّه في دولة الاستبداد التي لا يأخذ بها القانون تعريفه الصّحّي حيث مصدره هو المستبدُّ نفسه فالسلطات الثلاث بيده فإنّه لا يمكّن من ممارسة الاستبداد إلا من خلال منظومة كبيرة وكبيرةٍ جدّاً من قوانين الحبر السّرّيّ يصوغها من الخوف والقهر الذي يمارسه على شعبِه ويكون مصدرها وثنيّة المستبدِّ وصنميّته..
 

إنّ هذه القيود التي رزحت تحتها حياة النّاس دهراً من الذلّ، كان لا بد أن يستمرّ الشّعبُ بقبولِها في استمرائه للعبوديّة فتبقى كائنةً وفي تطوّرٍ مستمرّ، أو أنّها تنقض جميعاً في كلمة واحدة قالها الشّعب ذات ثورة: "حرّيّة"

لقد اندرجت قوانين الحبر السّرّيّ كثيراً تحت قانونٍ رسميٍّ يدخل فيه كلّ ما يحلو للمستبدّ إدخاله كقانون الطّوارئ أو الإرهاب ولكن تندرج من حيث تقنين العقاب لا من حيث حقيقتها.. كانت تلك القوانين دائماً كالسوط الذي اختبأ خلف ظهر الجلّاد. فلم يكن الجلادُ ليظهره ولم يكن ليرميه.. كان مستعدّاً دائماً ليظهره للآثم الذي يخالف أحد المحظورات الصامتة.

لقد فهم النّاس إذن أنّ كثيراً من المحظورات لم يُصرَّحْ بحظرِها بالقانون ولم يجرئِ المستبدُّ على كتابتها بدستورٍ، لأنها تعرّيه تماماً من حيث تفاهتها وتهافتها أو شدّة فجورها.. فلم يعد هناك فرعون الناطق بـ "أنا ربكم الأعلى" لكن ما يزال فراعين تتألّه دون أن تجرؤ على النطق بذلك فعلاً.

وكذلك فإنّ هذه المحظورات لا يجرؤ الرّعيّةُ أن يقترفوا "إثمها" لأنهم حفظوا شخصيّةَ المستبدّ وأدركوا بعلاقة الخوف التي تربطهم به ما يريد وما لا يريد.. تلك القوانين لا علاقة لها بانتماءات المستبدّ أو بدينه إلا من حيث الشكل والمحتوى الذي تأخذه وإلّا فهي موجودةٌ عند الطّغاة جميعاً قومجيّهم وممانعهم وإسلاميّهم.. إنّ هذه القيود التي رزحت تحتها حياة النّاس دهراً من الذلّ، كان لا بد أن يستمرّ الشّعبُ بقبولِها في استمرائه للعبوديّة فتبقى كائنةً وفي تطوّرٍ مستمرّ، أو أنّها تنقض جميعاً في كلمة واحدة قالها الشّعب ذات ثورة: "حرّيّة".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.