شعار قسم مدونات

رحلتي مع القرآن (2)

مدونات - القرآن

"كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" (ص – 29)
حتى وقعتُ في يومٍ من الأيام على آية من آيات الله سمِعتُها تخرج من سماعات المركبة التي كنتُ أستقلها عائدًا إلى البيت، والآيةُ هي:"أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَابقيت هذه الآية في ذهني طوال أيام، أنام وأصحو وأنا أفكر فيها.. ثم تذكرتُ الآية التي ترادفها:"أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا".

ثم بدأت بالبحث أكثر وأكثر فوجدتُ بأنّني كنتُ مخدوعا، طوال هذه السنين كانوا يخدعونني.. يوعدوني بالجنّة ويوهموني برضى الإلهِ وأنا لستُ من ذلك في شيء! إن القرآن نَزَل لكي نفهمه ونتعرّف معانيه، فلماذا بحقّ الله نحفظه؟! إن الأحاديث التي تدعو لحفظ القرآن، نزلت في ظرف كان حفظ القرآن من أفضل الأعمال، فحفظه (في الصدور وفي الصحف) في وقت نزوله كان لازمًا لضمان حفظه (فيزيائيا) ووصوله إلى الأجيال القادمة، فكان يُكتَب على الجريد ويُحفظ في الصدور وتتناقله الألسنة وتُشحذ الهمم في حفظه وترديد آياته للغايةِ التي ذكرتُ.

إذا قرأنا القرآن وتلوناه كما أمرنا الله وكما علّمنا رسول الله، أقصد إذا قرأناه بغرض التدبر والفَهم والتعلم، إذا فعلنا ذلك بنفس الهمّة والحماس اللذان نقرأ بهما بدون وعي أو فَهم بغرض "حصد الحسنات" فإنّنا نحفظه كلّه بدون عناء.

فإذا قلنا أنّ هذه هي غاية حِفظ القرآن في السنوات الأولى من نزوله، فلماذا نحاول حِفظه اليوم وهو مطبوع في ملايين المصاحف ومُسجّل في ملايين النُسخ الإلكترونية بصوت آلاف القرّاء وبمختلف القراءات! وحتى عمر بن الخطاب، كان يحفظ العشر آياتٍ ولا ينتقلُ إلى غيرها حتى يفهمها ويطبّقها ويعمل بها في دنياه، وقد تعلّم البقرة في اثنتي عشرة سنة كاملة! وأنا الذي حفظتها في يومَين اثنين (لا أبالغ) في تلك الدورة الصيفية! فلم يكن عمر يحفظُ عَمٍ (من العَمَى) بدون فَهم كما يحدث في هذا الزمان!

وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خيرُكم من تعلّم القرآن وعلّمه" فكذبوا على رسول الله وأصبحوا يرددونها في كل آنٍ وحين وهم يحسبون أن من تعلّم القرآن كمن حفظه، والحق أن الفرق بينهما كالفرق بين السماء والأرض! وحديثُ التاج الذي يلبسه الوالدان جزاء بحفظ ولدهما القرآن، لا يتضمنُ أية إشارة من بعيد أو قريب إلى الحفظ، بل يبدأُ بـ "من قرأ القرآن وعَمِل بما فيه، ألبس والداه تاجًا.."، وهم الذين يرددونه في كل حفل أو مسابقة تدعو لـ"حفظ" القرآن الكريم! وقد قالصلى الله عليه وسلم: "إن من شرّ الناس رجلا فاجرًا يقرأُ كتاب اللهِ لا يرعوي إلى شيء منه، يرعوي: يتّعظ، أو يترك الجهل، أو ينتقل من السيئ إلى الحَسَن".

وقد قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "كنا نحفظ العشر آيات فلا ننتقل إلى ما بعدها حتى نعمل بهن". وروي الإمام مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر قال:"تعلّم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلما ختمها نحر جزوراً" (أي شاة). وفي رواية ثمانية. ولم يُعرَف أن عمر كان من حفظة القرآن، وأكابر الصحابة أكثرهم لم يكونوا من حفظة القرآن، ولا من المكثرين في رواية الحديث. وكان أهمّ ما ينشغلون به هو العمل بالقرآن، وتطبيقه قدر المستطاع. مع ذلك، كان يحفظه نفر كثير من الصحابة الأفاضل مثل ابن مسعود، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وأُبيّ بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم، وقد بيَنتُ حفظوه لأيّ غرض في بداية المقال.

وروي عن عثمان وابن مسعود: أن رسول الله كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل، فيعلمنا القرآن والعمل جميعًا. وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي أنّه قال: "كنّا إذا تعلّمنا عشر آياتٍ من القرآن لم نتعلّم العشر التي بعدها حتى نعرف حلالها وحرامها وأمرها ونهيها". وروي عن عبد الله بن مسعود أنّه قال: إ"نّا صعب علينا حفظ ألفاظ القرآن وسهل علينا العمل به، وإنّ من بعدنا يسهل عليهم حفظ القرآن ويصعب عليهم العمل به".

وروي عن ابن عمر أنه قال: "كان الفاضل من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في صدر هذه الأمة لا يحفظ من القرآن إلا السورة أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإن آخر هذه الأمة يقرؤون القرآن منهم الصبي والأعمى ولا يرزقون العمل به. (الآثار السابقة جميعًا جاءت في الجامع لأحكام القرآن الكريم للقرطبي).

ويكفي بنا، قبل كل هذه الآثار أن نذكر قوله تعالى: "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ" (ص – 29)

إذًا هل أقول أنّنا يجب أن نتخلّى تمامًا عن الحفظ؟
أقول لا، فلا سبيل للنظر في الدين أو إفهام المفسدين إلا بذكر آيات من الكتاب الحكيم لكي تكون رادعةً لهم وأحقّ أن تُتّبع، فأقول، إذا قرأنا القرآن وتلوناه كما أمرنا الله وكما علّمنا رسول الله، أقصد إذا قرأناه بغرض التدبر والفَهم والتعلم، إذا فعلنا ذلك بنفس الهمّة والحماس اللذان نقرأ بهما بدون وعي أو فَهم بغرض "حصد الحسنات" فإنّنا نحفظه كلّه بدون عناء!

ورغم أنّ حفظه، في هذه الحالة، يكون طويلًا، فربما يمتدّ إلى عشر سنين أو عشرين سنة أو يزيد، إلا أنّه يكون مُثمرا وأكثر فائدةً من حفظه في سنتين بدون علم أو فِقه، فبديهيٌ أنّك إذا وقفت عند آية وتدبرتها وجاهدت في فهمها، فإنّك مباشرة تحفظها وتتذكرها ولو بعد حين.

القرآن نزل ليهدي النّاس، ليُصلِح الناس، ليَحضّهم على التفكير وإعمال العقل.. فيا أسفًا علينا وقد انحصر اهتمامنا بالقرآن في هذا المعنى الضيّق، فنتسابق على حفظه ونتنافس على ترديده، ونُقيم المسابقات الدولية والعالمية لـ"أكثر المسلمين بغبغةً وإلغاءً للعقل"

فأرى أنّ "حفظ القرآن بتدبّره" يكون سبيل أعمّ المسلمين، أمّا من أراد أن يتوغّل في علوم الدين، ويصبح من الدعاة إلى الله الحكيم، فيمكنُه تدبّره ثم حفظه، على طريقة عمر بن الخطاب ومجموعٌ من الصحابة، أي يحفظ العشر آياتٍ ولا ينتقل إلى أخرى حتى يتدبّرها ويفهمها ويتعلّم مقاصدها وآدابها، وبهذا يجمع بين الحفظ والتدبر، ويكون التدبر في المقام الأوّل ويليه الحفظ، ويكون الحفظ في هذه الحالة بغرض التفقّه في الدين لكي يستحضر القرآن عند الحاجة.

وأخيرًا، أقول أنني إذا قضيتُ هذه الأعوام في تدبّر القرآن وتأمّلِ معانيه وفَهم مقاصده وغاياته، لكنتُ بلغتُ من العلم درجةً لم يبلُغها أحدٌ من أقراني. ولنتأمل قول الوليد بن المغيرة عن القرآن حينما سمعه للمرة الأولى: "إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلا، وَأَنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ وَمَا يَقُولُ هَذَا بَشَرٌ"، إذا لم تَقل مثل قوله في كل مرة تقرأ فيها القرآن، فإنك بالفعل لم تقرأه.

إنّ القرآن نزل ليهدي النّاس، ليُصلِح الناس، ليَحضّهم على التفكير وإعمال العقل والنظر والتأمّل في الكَون.. فيا أسفًا علينا وقد انحصر اهتمامنا بالقرآن في هذا المعنى الضيّق، فنتسابق على حفظه ونتنافس على ترديده، ونُقيم المسابقات الدولية والعالمية لـ"أكثر المسلمين بغبغةً وإلغاءً للعقل" إن هم إلا – بتعبير القرآن- "كالحمار يحمل أسفارا"، ونُشجّع النّاس على تلاوته والتغنّي به في المآتِم والمحافل ونحُضّ على ضبْطِ حروفه وإعطاء كلّ مدٍّ وغُنَّةٍ وحرَكَةٍ حقّها دون أن نعطي القرآن حقّه. فوجب علينا، بذلك، قول ربنا على لسان رسوله: "رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا". الفرقان 30.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.