شعار قسم مدونات

تركيا.. الأمل الممكن

blogs تركيا

البذرة النابتة تكون أضعف ما يمكن وهي في حالة النمو الأولى قبل أن تقسى وتضرب جذورها في الأرض، كذلك الدولة التركية اليوم، فهي لا تريد أن تخسر ما حققته من إنجاز سياسي ونمو اقتصادي، واستعادة للهوية التركية القائمة على الثنائية ((القومية -الإسلام)) وليس لديها القدرة على صد تآمر المتآمرين، فعودة تركيا إلى جذورها الإسلامية مع الاستفادة من اللحظة التاريخية في تطبيق الديمقراطية؛ مكّنها من إنتاج نظام سياسي واقتصادي وإداري متماسك، عزز روح الانتماء القومي والديني لدى أفرادها وجعل منها أملا لكل مظلومي المسلمين، ما أزعج وأربك القوى الاقتصادية الكبرى، فالدول الغربية وخصوصاً تلك التي تتركز فيها الجالية التركية ترى الارتباك السياسي وطريقة التعامل مع القيادة التركية كاشفاً لتلك المخاوف.

بدأ هذا الارتباك واضحا إبان فشل الانقلاب العسكري على الديمقراطية التركية، والفتور الذي أصاب التصريحات الغربية الشاجبة لهذا الانقلاب، جعل منها موطئا للاتهامات التركية لها بالتدبير والتخطيط لهذا الانقلاب، وتجلى هذا الارتباك بصورة أكثر وضوحا حينما زار بلدريم إحدى المدن الألمانية والتقى الجالية التركية في حشد جماهيري كبير من أجل إقناعهم بالتعديلات الدستورية؛ مما دفع الدول الأوروبية للإسراع في منع هذه اللقاءات بين المسؤولين الأتراك والجالية التركية، وتركت الباب مواربا للتجمعات المناهضة للتعديلات التي كانت تتمنى أوروبا لو أنها لا تمرر. وفي النهاية ما ترغبه دول الغرب هو وجود حليف تركي يكون أداة لتنفيذ سياستها وليس مشارك أو مزاحم في قرارتها السياسية.

خطر قيامة تركيا المسلمة ليس اقتصادي فقط أو قدرة تركيا على حشد قوى إسلامية في الشرق وأفريقيا وشبه قارة الهند وإنما قدرتها على اختراق القرار السياسي الغربي وتغير القاعدة الانتخابية في الغرب مما سيضطر أوروبا إلى إعطاء المسلمين دورا تشاركيا في إنتاج القرار السياسي والاجتماعي

ظل الأتراك حتى بضع سنين معتنين بالتجارة وما يعيلهم على الحياة في دول المهجر مكونين بذلك تجمعاتهم المغلقة على ذاتها، حتى قدوم حزب العدالة والتنمية إلى الحكم؛ الذي استطاع أن يغيّر منحى التاريخ التركي من التبعية للغرب إلى الاستقلال بالهوية التركية؛ مما حقق الاستقرار في ذاتية الفرد التركي، الذي استطاع بعد عملية التغريب الطويل لهويته -التي بدأت مع انقلاب حركة الاتحاد والترقي على السلطة في تركيا، وتطبيق المبدأ العلماني الكمالي الذي لم يهدف لفصل الدين عن الدولة بل إيجاد نمط ديني صوري مشوه وإجبار الناس عليه- من تحقيق مصالحة بين ما يتصوره عن هويته وبين الواقع الذي يعيشه، وهذا ما كتبه أحمد داود أوغلو منظر الحياة السياسية لحزب العدالة والتنمية في كتابه العمق الاستراتيجي ((إن علاقات تركيا الجيدة تقليدياً مع الغرب هي شكل من أشكال الاغتراب)).

 

ما يريده حزب العدالة والتنمية هو المشاركة الناعمة بالقرار السياسي في أوروبا من خلال جالية منظمة وواعية للمحيط الذي تعيش فيه وتنمية قدراتها الفاعلة ضمن المتاحات لها، وتصحيح مسار التاريخ الذي حرم المسلمين من حقوقهم منذ انهيار الامبراطورية العثمانية، وخصوصاً في دول البلقان ذات العمق الإسلامي التركي، لم تقف الحكومة التركية عند الوعظ التنظيري بل تجاوزته إلى خطوات عملية من خلال الدعم في بناء المساجد، وإنشاء جامعة لتخريج الأئمة والخطباء عبر منظمة تيبت التي لها دور بارز دينيا واجتماعيا بين الأقلية المسلمة في أوروبا، قد يبدو المشهد رماديا بالنسبة للمسلمين اليوم في أوروبا ولكنه لن يكون كذلك في ظل الزيادة المتصاعدة للمسلمين في أوروبا، وتناقص الغربيين.

ما يحتاجه المسلمون اليوم هو العصبية الدينية؛ لتشكيل تكتل قادر أن يفرض نفسه على القرار السياسي وهذا ما يرعب التفكير الغربي، فوجود دولة مثل تركيا لها تاريخ في الدفاع عن الإسلام يعني وجود قوى فاعلة سياسيا واقتصاديا مسلمة في أوروبا ظلت لعقود مهمشة في الأحياء الفقيرة والضواحي النائية؛ ما دفع مسؤولون من الحزب الحاكم في ألمانيا لطرح فكرة إيجاد قانون لتنظيم حياة المسلم في ألمانيا من عدة نقاط أهمّها: منع الدعم التركي للمساجد والمؤسسات الدينية بحجة تبعية هذه المؤسسات لسياسة أنقرة، وأن تكون الخطبة واللغة المستخدمة في المساجد اللغة الألمانية تحت حجة الأمن القومي والقدرة على فهم الآخر الذي بات مكونا أساسيا من التركيبة الاجتماعية في أوروبا. هم يريدون من هذا القانون الحد من انتشار المساجد، وتحجيم اللغة التركية والعربية، ودورها في تفاعل المسلمين مع قضايا بلادهم الأم.

إن الدور الذي تلعبه تركيا في أوروبا مهمّ جدا في إعادة تكوين هوية الفرد المسلم في أوروبا، ويتوجب على الأتراك أن ينفتحوا أكثر على الجاليات الإسلامية في أوروبا، وأن يتقدموا إليهم خطوة، وينسقوا الجهود من أجل رتق الانقسام الحاصل بين الجاليات المسلمة العاجزة عن الاندماج

فخطر قيامة تركيا المسلمة ليس اقتصادي فقط أو قدرة تركيا على حشد قوى إسلامية في الشرق وأفريقيا وشبه قارة الهند وإنما قدرتها على اختراق القرار السياسي الغربي وتغير القاعدة الانتخابية في الغرب مما سيضطر أوروبا إلى إعطاء المسلمين دورا تشاركيا في إنتاج القرار السياسي والاجتماعي، أو الجنوح إلى اليمين المتطرف مما يهدد تماسك النسيج الاجتماعي، وكلتا الحالتين نتيجة مهمة بالنسبة لتركيا الناشئة.

إن الدور الذي تلعبه تركيا في أوروبا مهمّ جدا في إعادة تكوين هوية الفرد المسلم في أوروبا، ويتوجب على الأتراك أن ينفتحوا أكثر على الجاليات الإسلامية في أوروبا، وأن يتقدموا إليهم خطوة، وينسقوا الجهود من أجل رتق الانقسام الحاصل بين الجاليات المسلمة العاجزة عن الاندماج؛ وأعزو ذلك للإرث التاريخي والحضاري والثقافي بين المواطن الأصل والجالية المسلمة، وما تختزنه الذاكرة التاريخية من رؤى متناقضة لكلا المكونين، فالاندماج بين الجالية التركية والجالية العربية سيجلب بالحتمية جميع الجاليات المسلمة الأخرى لتحقيق تكتل إسلامي قادر على الأقل في التعبير عما يمكّنه من تحقيق الاستقرار الذاتي لتكوينه الشخصي.

فالأتراك لا يمكنهم وحدهم النجاح دون القوى العربية التي تشكل إرث فكري وحيد للدين الإسلامي، فالجاليات المسلمة ليست كما تبدو تماماً أعداد حسابية ترفل في الضياع، وتسقط أمام اختبارات الإغراءات الأوروبية، هناك آلاف من المميزين في أعمالهم ومحط للفخر والاعتزاز، ولكن ما يغيّب هذا التميز ويبرز الوجه الأكثر تكذيبا انعدام عصبية تمكّن هذه الجموع من الالتفاف حولها؛ لتحقيق التناغم والتمازج، وبالتالي تبادل النظريات الفكرية والارتقاء بالجميع لمرتبة المسؤولية الأخلاقية والعملية، فالإعلام الغربي لا يهاجم سيء المسلمين في أوروبا-ليس المسلم السيء ما تخشاه أوربا فأمثاله ليس بالقليل فيها- بل يهاجم الجيد منهم ويعزو ذلك لجودة الإسلام وقدرته على بعث روح المجاهدة في معتنقيه الذين دائماً ما يكون ضحية الاضطهاد والشمولية النمطية للمسلم في أوروبا.

 

ليس لهذا الدور الرفيع إلا تركيا، فهي أمل المسلمين الممكن، فإن كلّت همتها وحاولت رفع هذا الثقل عن اكتافها فهو واقع عليها لا محال، بل إنه عمق تاريخي لا يمكن التفلّت منه

"أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ" الأعراف، ما تحتمه علينا الواقعية والبرغماتية هو الاستنفاع من وجودنا في دول العالم المتقدم، ففي ظل تقهقر الربيع العربي وانحباس تطلعات مناضليها وركونه إلى الاستبداد، وتبرير هذا الاستبداد بالفوضى وانعدام سبل الحياة، وقوافل الشهداء التي ذهبت هباء، وتهافت المستعمرون لبلادنا على حماية المستبد من السقوط؛ مما سيجعل فترة الاستبداد المحاقية تطول لعقود. باتت الفرصة الحقيقية هي ما نملكه في الغرب من حقوق الإنسان وجودة التعليم وإتاحة الفرص للنجاح يجب أن نستثمرها بأقصى طاقتنا، ولكن ستظل هذه النجاحات فردية إلى أن تستطيع القوة الجامعة أن تحزم هذه النجاحات الفردية إلى حزمة متكاملة وتوجهها من أجل خدمة المسلمين أولا في أوروبا؛ لتكون لهم مشاركة فاعلة في الحضارة الإنسانية، ومن ثم لأولئك المستضعفين الذين يشربون الدماء، ويودعون نعوش الموت.

وليس لهذا الدور الرفيع إلا تركيا، فهي أمل المسلمين الممكن، فإن كلّت همتها وحاولت رفع هذا الثقل عن اكتافها فهو واقع عليها لا محال، بل إنه عمق تاريخي لا يمكن التفلّت منه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.