شعار قسم مدونات

الدّينار الرّوماني

blogs - coins
من منّا لا يعرف عظمة الإمبراطوريّة الرّومانية واتّساعها؟ تلك الامبراطوريّة العظيمة التي اشتهرت بتعبيد الطّرق، حيث قامت بتعبيد ما يزيد عن 80 ألف كيلومتر منها، كما قامت ببناء العديد من قنوات المياه والنوافير والمسارح والمباني والمنحوتات، لا تزال بعضها قيد الاستعمال إلى يومنا هذا. ليس ذلك فحسب؛ بل تعدّ الأبجديّة اللاتينية وعديد اللغات الأوروبيّة، بل حتّى نظام التقويم الميلادي موروثا رومانيّا، شاهدا على عظمة تلك الحضارة حتّى يومنا هذا!
 
لكن ما الذي أدى إلى انهيار إمبراطوريّة بهذه العظمة والقوّة؟ هذا ما لا يعرفه الكثير! وهو سبب اقتصاديّ بالمقام الأوّل! كانت حركة التجارة مهمّة وضروريّة لروما، أدرّت عديد الأصناف -مثل القمح، اللّحوم، الزّيتون، الزّجاج، النّبيذ، الحرير، التّوابل، الحديد، الفضّة، الرّصاص، الرّخام، الخشب والقصدير- دخلاً كبيراً على الخزينة. بعض هذه الأصناف كانت إنتاجا رومانيّا خالصا، والبعض الآخر كانت مجرّد واردات، تمُرّ عبر الإمبراطوريّة قبل أن يُعاد تصديرها.

أدّى صكّ عملة بهذه الجودة المنخفضة إلى ازدياد التضخّم، وضرورة أن "تدفع أكثر" للحصول على ما تريد! وما يزيد هذا التضخّم سوءا هو ضرورة رفع رواتب موظّفي الإمبراطوريّة.

في عام 200 للميلاد كان عدد سكّان العاصمة روما في ازدياد مستمر؛ إذ وصل تعدادها السكّاني إلى مليون نسمة! الأمر الذي أدّى إلى ازدياد المصاريف بشكل ملحوظ، وبخاصة المصاريف الإداريّة ومصاريف الخدمات والجند. ناهيك عن التضّخم وتصدّع الاقتصاد وارتفاع الضّرائب؛ الأمر إلى جعل إيجاد مصادر دخل جديدة للإمبراطوريّة أمرا ضروريّاً!

استُعمل "الدّينار الفضّيّ" كعملة رئيسيّة في الإمبراطوريّة الرّومانية -وكلمة "دينار" بالمناسبة مشتقّة من الكلمة الإغريقيّة "دينوريوس" التي تعني "وِحدة ذهبيّة"، استعمل الرّومان كلمة "دينوريوس" فاطلقوه على عملتهم أيضاً-، في بداية عصر الإمبراطوريّة امتاز الدّينار الرّوماني بدرجة نقاء عالية، إذ حوى كل دينار من 4 جرامات ونصف من الفضّة الخالصة، الكميّة التي مثّلت 90 بالمئة من وزنه، وكان يعدل في قيمته أجرة يوم كامل لعامل مُتخصّص.

بدأت المشكلة بالظّهور عندما شحّت كمّيّة الذّهب والفضّة الواردة إلى خزينة الإمبراطوريّة، وخلق ذلك تحدّياً جديداً للإمبراطوريّة، فما الحلّ؟ لم يستطع الرّومان توفير مصادر جديدة للذهب والفضّة؛ فعمدوا إلى تقليل نسبة الفضّة في الدّينار الروماني، فبدلاً من الـ90 بالمئة بدأت هذه النّسبة تنخفض تدريجيّا، فوصلت إلى 75 بالمئة في عهد ماركوس أوريليوس "161-180 ميلاديّة"، ثمّ إلى 50 بالمئة في سنة 241 في عهد غورديان الثّالث، ثمّ إلى 5 بالمئة فقط في عهد الإمبراطور غالينوس "253-268"!

لم تنجح عمليّة تقليل نسبة الفضّة وضخّ كميّة أكبر من العملة في السّوق في إنعاش الاقتصاد الرّوماني المتدهور، ولا حتّى الإبقاء عليه كما هو دون أن يزداد سوءا، بل على النّقيض تماماً؛ أدّى صكّ عملة بهذه الجودة المنخفضة إلى ازدياد التضخّم، وضرورة أن "تدفع أكثر" للحصول على ما تريد! وما يزيد هذا التضخّم سوءا هو ضرورة رفع رواتب موظّفي الإمبراطوريّة وجنودها لمواكبة ارتفاع أسعار السّلع، فزادت مصاريف الإمبراطوريّة بشكل أكبر.

في نهاية عهد غالينوس "265 ميلاديّة" وصلت نسبة الفضّة في الدّينار الرّوماني إلى 0.5 بالمئة فقط، في الوقت الذي ارتفعت فيه أسعار السّلع بشكل كبير، وصلت في بعضها إلى عشر أضعاف السّعر الأساسيّ!

في بداية عصر الإمبراطوريّة امتاز الدّينار الرّوماني بدرجة نقاء عالية، إذ حوى كل دينار من 4 جرامات ونصف من الفضّة الخالصة، الكميّة التي مثّلت 90 بالمئة من وزنه.

مع هذا الارتفاع في مصاريف الدّولة الإداريّة، لم تعد تكفي كميّة المال الموجودة حاليّا في خزائنها؛ فكان أن تمّ رفع الضّرائب وشُلّت حركة الاقتصاد، حتّى انعدمت التّجارة الخارجيّة تقريباً في أواخر القرن الثالث الميلادي، بل تنازع في حُكم الإمبراطوريّة في هذا القرن أكثر من 50 إمبراطوراً، تم اغتيال العديد منهم، وقتل العديد الآخرون في معارك بينهم وبين الدّولة وأعدائها. ساهم جمعيهم في تمزيق روما العظيمة التي أنهت القرن الثالث مقسّمة إلى ثلاث دول: إمبراطوريّة تدمر: وتحكم الشّام وشرق تركيّا ومصر، إمبراطوريّة الغال: وتحكم فرنسا وإيبيريا وبريطانيا، فيما بقيت باقي المناطق تحت سيطرة روما المباشرة.

أدّى هذا التمزّق وهذا الضّعف إلى جعل الإمبراطوريّة الرّومانيّة مطمعاً للكثيرين، كالقوط والفندال والهون والبورغنديين والفرنجة والسكسونيين والإنجليز والاسكوتلنديين والبلغار وغيرهم، فانهارت الإمبراطوريّة الرّومانيّة الغربيّة تماما في عام 476، ولم تبقَ إلا الإمبراطوريّة الرّومانيّة الشّرقيّة "الإمبراطوريّة البيزنطيّة" والتي بقيت حتّى سقطت القسطنطينيّة بيد العثمانيين فيما بعد.

هل تشعر بعدم رغبة في وضع المزيد من الذّهب في الخزينة؟ لا عليك؛ قوّتك تمكنّك من طبع المزيد من الأوراق النقديّة دون الحاجة لوجود الذّهب! هل تبدو قصّة الدّينار الرّوماني مألوفة؟ أعتقد ذلك!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.