شعار قسم مدونات

وَهْمُ الاِزدواج اللُّغَويّ إبّان عصر الاحتجاج

blogs - كتب عربية قديمة
في ظلِّ شيوعِ وَهْمِ القَوْلِ بالازدواجِ اللُّغويِّ في اللُّغةِ العربيّة إبّانَ عصرِ الاحتجاج في الدّراسات اللُّغويّة الحديثة، واجترار معظمِ الدّارسين العربِ وانصياعِهم وراء نظريّات المستشرقين القائلة بهذا الازدواج، يناقش أ.د. محمد ربّاع هذه الفكرةَ الوليدةَ المصدَّرة من الدّراسات الاستشراقيّة إلى الدّراسات العربيّة الحديثة، الآخذة من الموروث اللّغويِّ المنطوقِ منه والمكتوب مِحورًا لإثبات وجود الازدواج اللّغوي الذي لم يُشِرْ إليْه أيٌّ من القدماء.

يحاول الرباع إزالة الضّبابيّة والغموض حول صورة الفصحى المنطوقة في اللُّغةِ العربيّة المحدَّدة زمانيًّا بنهايةِ عصرِ الاحتجاج، معيدًا الاعتبار إلى الفكرِ اللُّغويِّ القديم الذي ينفي وجودَ الازدواجِ اللُّغوي عند العرب عصر الاحتجاج، فينتهي بإثبات الحقيقة التي انطلق منها: وحدة اللُّغة في أطرِها الكلَّيّة، وتحوُّلها من صورة الوحدة في ذلك العصر إلى صورة الازدواج بعد ذلك العصر، هذه الحقيقة التي باتت شاذّةً بالمقايسة إلى معظم الدّراسات اللغويّة الحديثة القائلة بالازدواج.

يرى الرباع أنَّ الدّراسات التي يخضع قائلوها لفكرة الازدواج تضعهم وجهًا لوجه أمام واقعٍ لغويٍّ في صورةٍ متوحّدة، فتجعل أصحابها يرَوْن أن كلّ نتائج دراساتِهم تؤكِّد هذا الواقع وتنكر القول بالازدواج. لم يقِل اهتمام القدماء باللّهجات عن اهتمامِهم بالفصحى، فالفصحى عندهم هي اللَّهجات نفسها، حيث تُدرس جميعًا لاستنباطِ القواعد منها، بل وصل اهتمامهم إلى حدِّ تسجيل الأصوات التي تُزجَر بها البهائم، وأصوات الإنسان الفطريّة، بقصدِ التّقعيد والتّوجيه.

وقول بعض القائلين بالازدواج: إنَّ اللغة المشتركة أعلى من مستوى العامة يتناقضُ مع مَن يذهبون منهم إلى أنّ المشتركة لغةُ قريش.

ويقدِّم الرباع وصفًا مجملًا لصورةِ العربيّة في عصرِ الاحتجاج، الذي ينتهي به إلى أنّ العربيّة حتى نهاية عصر الاحتجاج اللغوي، على التقريب، زمانيًّا ومكانيًّا، قد كانت لغة موحّدة في لهجاتِها المتباينة، وكانت لغة سليقة تجري على ألسنة أهلِها، تُتَوارثُ من الجدِّ إلى حفيدِه، وهي اللُّغة التي حاوروه بها في صباه، ووحدة العربيّة في عصر الاحتجاج لا تعني التّماثل المطلق بين لهجاتِ العربيّة، فالتّطابق اللُّغويّ لا يتحقّق في البيئة اللَّهجيّة الواحدة، وإذا كان ثمّة تباين، في البيئة اللهجية الواحدة، وفي بيئاتِ اللّهجات المتعدِّدة المشكِّلة للغة، فإنّه يكاد ينحصر في الثّورة اللَّفظية، فقد عرف أصحاب كلِّ لهجة من لهجات العربيّة من الألفاظ والمعاني بمقدار ظروفِ البيئة، وبمقدار صلتِهم بالبيئات الأخرى، وقد كانت هذه الفوارق موْردًا للتّرادف، والمشترك اللّفظي، والأضداد في اللُّغة الفصحى، وهذا ما يشير إلى انعدام الفارق بين الفصحى واللّهجات.

في سبيلِه نَحْوَ إزاحةِ الضَّبابيّة في الدِّراسات اللغوية الحديثةِ الواضِعة صورةَ العربية في عصر الاحتجاج موضِعَ الدَّرس، يستَشِفُّ الرباع من النّظرية النَّحويّة دلالات تثبِت تداولَ الفصحى على ألسنة أهل عصرِ الاحتجاج في شؤون حياتِهم كلّها، فكان لها وقعٌ مؤثِّر في البنية التفكيريّة للنّحاة، حيث اتّخذوا من وقائعِ المنطوقِ وتشكّلاتِه مسعفًا على حلِّ إشكالاتِ المكتوب، وكان القصد من ذلك تقديم وصفٍ لصورة العربيّة على ألسنة أبنائها في عصرِ الاحتجاج في شؤون حياتِهم كلِّها، من خلال استثمار معطيات الدّرس اللُّغوي التطبيقيّة، الذي كان مطابِقًا للبناء النَّحْويِّ التنظيريِّ.

وقد ذهب الرباع إلى تبيان المستندات الرئيسيّة للقائلين بالازدواجِ اللُّغويّ، فمنشأ هذه الفكرة كان في دراساتِ المستشرقين، والتّراث اللُّغوي للعربية لا ينطوي على ما يسوِّغ القول بالازدواج، وهم يقّرون أنّ تفسير العلاقات اللُّغوية في عصر الاحتجاج قول افتراضي تخميني.

وقول بعض القائلين بالازدواج: إنَّ اللغة المشتركة أعلى من مستوى العامة يتناقضُ مع مَن يذهبون منهم إلى أنّ المشتركة لغةُ قريش، إذ إنَّ ذلك يشير إلى تداولِ هذه المشتركة على ألسنةِ عامّةِ القرشيّين أو الحجازيّين، وتجدر الإشارة إلى أنَّ قَوْلَ القدماءِ: إنَّ القرشيّة أفصحُ اللّهجات، قد قُصِدَ به خلوُّها من من بعضِ العادات الصوتيّة التي وُصِفت بالقبحِ، فضلًا على أنّه كان يقصد بها البلاغة والبيان.

يقدِّم محمد عيد نموذجًا للتأويلِ والمصادرةِ، فذهب إلى تأويل وصفِ القدماء للواقع اللُّغوي، وتحميل كلامهم ضدّ ما يحتمل.

والقول: إنَّ اللهجات تمثِّل لغة الحياة اليوميّة يتناقضُ حين تكون هذه الظواهر اللَّهجيّة موجودة في التّراث اللغويِّ الذي يمثِّل المشتركة، بل إنَّ القائلين بالازدواج، عندما يتحدّثون عن هذه الظواهر اللّهجيّة ويصفونها، فإنّهم يأتون بالنّماذج المستقاةِ من التّراثِ اللّغوي، الذي يمثِّل المشتركة، شواهدَ عليْها. يقدِّم الرباع نموذجيْن للمقايسات اللُّغوية الظنّية عندَ القائلين بالازدواج، يمثِّل أحدهما: الاتّهام والافتراض، والآخر: التأويل والمصادرة.

يقدِّم (رابين) نموذجًا للاتّهام والافتراض، إذ إنّه يصدر من افتراض يرى فيه أنَّ لغة التخاطب التي تمثِّل اللهجات تختلف عن لغة الشّعر، وكان على الشعراء أن يكتسبوها بالتعلم، ومن ثم غدا هذا الافتراض حقيقة استند إليْها في اتّهام النحاة بأنّهم لم يفهموا علاقة الفصحى باللهجات، كما يرى أنَّ اللهجات لم تكنْ معربة، ويردُّ هذا كلُّه، ويضعه في باب التخمين، عندما يذهب إلى القول باحتمال أن يكون بعض هذه اللهجات أصلًا لهذه الفصيحة.

ويقدِّم محمد عيد نموذجًا للتأويلِ والمصادرةِ، فذهب إلى تأويل وصفِ القدماء للواقع اللُّغوي، وتحميل كلامهم ضدّ ما يحتمل، فهو يقرر أنّه وجد بين العرب فصحى ولهجات، ولكنّ نتائج بحثه أوصلته إلى نقيض مقولة الازدواج، فانتهى إلى أنَّ وصف العربية حتى القرن الرابع يدلُّ على أنَّ نفوذ الفصحى اقتصر على شيئيْن رئيسين، هما: اللغة المكتوبة، والكلام المرسل عند بعضِ القبائل البدويّة في الصحراء، وهذا وإن دلَّ، فإنّما يدلُّ على بقاء الفصيحة المنطوقة جارية على لسانِ القبائل المنعزلة عن العالم الخارجي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.