شعار قسم مدونات

وبالأطفال إحساناً

blogs- التربية المثالية

كانت بداية "اختبار سجن ستانفورد"، إعلانٌ في جريدة محلية للبحث عن متطوعين لإجراء تجربة "السجن" عليهم بتمويل من البحرية الأمريكية وتحت إشراف أساتذة جامعيين. قُسِّم المتطوعون عشوائيا لفريقين: أحدهما يتولى حراسة السجن والآخر في دور السجين. كان هدف التجربة دراسة التغييرات النفسية والسلوكية للأفراد إثر امتلاكهم للسلطة. وكانت النتيجة كارثية، وسرعان ما خرجت الأمور عن السيطرة؛ ففي سبيل الحفاظ على النظام تمادى الحراس في ممارسة التعنيف، وعذَّبوا المساجين، ووصل الأمر أن الأستاذ المشرف اعترف لاحقا أن الأمر يشبه الغيبوبة فقد تقمص دور مدير السجن بشكل كامل فرفض طلبات الانسحاب في أول الوقت.

تذكرت هذه التجربة وأنا أشاهد صور طفل طريح حضن أمه الباكية، يشكو وحشية معلِّمه وآثار الضربِ باديةٌ على جسده النحيل. تم تداول الصور والتعليق عليها بشكل كبير في ساحة التواصل الموريتانية على الفيسبوك، واتفق أغلبُ المعلقين على إنكار الأمر لكن اختلفت ردّاتُ فعلهم حول "فعل الضرب كأداة تأديبية" بين معارض مستنكر لاستخدامه، ومؤيد له مستشهدا بماضيه الشخصي ومتشبثا بالضرب كوسيلة لابد من شيء منها لتربية الطفل وتقويم اعوجاجه.

كثيرة هي وسائل التربية ومتعددة شُعَبُها، وما بين أعلاها وهي "القدوة" وأدناها وهو "توجيه الأوامر"، مساحة مليئة بالخيارات التي تحفظ للطفل جسده وروحه، وللمعلم تأثيره وحضوره

لكن على من سيتعامل مع الطفل في سنواته الأولى كالأم، والمعلم أو الأستاذ المحظري المقبل على التفرغ للأطفال، عليهم أن يدركوا أنهم بصدد التعامل مع روح بريئة مازالت تتشكل، تُملأ بما يُقَرِّرُون، وتتأثَّرُ بما يقولون، وربما لا تملك القدرة الكاملة على الاستيعاب وفهم الأمور من المرة الأولى، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالصبر فالطفل لا يتعمد استفزازهم، وإنما هي طبيعة قصوره ومحدودية إدراكه، فلابد من الصبر كما في أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُؤمر الطفل بالصلاة لسبع ويضرب عليها لعشر، 3 سنوات لتَغرس فيه حب الصلاة باللين قبل استخدام التعنيف ولكن أكثر الناس لا يدركون هذه الحقيقة للأسف.

كثيرة هي وسائل التربية ومتعددة شُعَبُها، وما بين أعلاها وهي "القدوة" وأدناها وهو "توجيه الأوامر"، مساحة مليئة بالخيارات التي تحفظ للطفل جسده وروحه، وللمعلم تأثيره وحضوره. كما أن ثمة أيضا مسافة بين الوسيلة اللينة والقاسية، فالضرب من حيث هو اعتداء، لأن الطفل ولو كان تحت رعايتك فهو شخص مستقل، لجسده حرمة كبقية البشر. وفي الأمثلة المحلية والعالمية يوجد كثير من حُفاظ للقرآن والمتميزين في مجالات شتى، ممن لم يتعرضوا لأسلوب التربية بالضرب، الذي يترك أثره النفسي السلبي الأكيد على الطفل ولو قل.

كنا -في موريتانيا- أهل بدو، تتلقف أيادي الكبار فينا الطفل وليدا يدعون له بالخير ويتعهدونه بالرعاية والتأديب، يعلمونه ما استحقه عليهم من العلم والفصل بين الحسن والسيء من القول والفعل، حتى إذا استقام لسانه انطلق إلى مجلس "المحظرة" فتى كأترابه، مُحْكَمُ التربية سليمها، تحكمه الأعراف والتقاليد الحسنة والمبادئ التي رضعها مع حليب الأمهات، فلا يضطر أستاذه لتأديبه إلا في ما يخص إرشاده في مجال تخصصه وتبقى "روح لفريك" مانعة ضد خوارم المروءة.

أكثر الآباء الآن يغذي أبناءه ولا يربيهم-و إنما التربية في المهد لا بعد استقامة العود-، منهمكون في الانشغالات عنهم، حتى إذا ما أزعجوا أحدا أو ظلموه فأخرجوه عن طوره قامت الدنيا ولم تقعد

مع فترة النزوح إلى المدينة، تغيرت البيئة تماما، واختلط الحابل بالنابل، وانتشر الفقر وكثر الجهل، وقل الاعتماد على الكبار في التربية، فقليل من أولئك من قَبل التخلي عن أرض أجداده، وقليل أيضا من الآباء من فكر في التركيز على أبناءه، بما إن المسؤولية آلت إليه، بل اعتمد أكثرُ الناس -بحسن ظن- على البيئة كتربية، حتى بعد التطور ودخول الأجهزة كل منزل لم تتغير الطريقة. بل المؤسف أن أكثر الشابات الأمهات -وهن مظنة الثقافة- يقضون يومهم بتفصح الفيسبوك ورسائل الواتساب، وقلّ أن تجد إحداهن وقد فكرت في اقتناء كتاب يشرح تربية الأطفال، أو يتكلم عن سيكولوجية الطفل، كدليل بسيط على تفكيرها في الأمر أو اهتمامها به، بل تفتخر أنها ستربي أبناءها كما ربوها أهلها وتنسى المقولة المأثورة: "ربو أبناءكم لزمان غير زمانكم". فكيف سينشأ هؤلاء الأبناء؟ وهل يصلح الشارع والأجهزة الإلكترونية شيئا وحدهم؟

ثم بعد ذلك يدخلونه المحظرة، فيأبى الإنصات، ويبدأ مسيره الدراسي، فلا يتعلم ولا ينضبط كما يجب. وهل تصلح المحظرة والمدرسة شيئا وحدهم؟ وهل سيهتم المعلم بتعليمه أم بتقويم أخلاقه ولسانه أم بالفصل بينه وبين زملائه في خلافاتهم؟ أكثر الآباء الآن يغذي أبناءه ولا يربيهم-و إنما التربية في المهد لا بعد استقامة العود-، منهمكون في الانشغالات عنهم، حتى إذا ما أزعجوا أحدا أو ظلموه فأخرجوه عن طوره قامت الدنيا ولم تقعد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.