شعار قسم مدونات

هل خنْتُ وطَني؟

blogs - palestine

كما جرت العادة، في كل عامٍ دراسيٍّ نذهب في رحلةٍ مدرسيةٍ إلى الداخل المحتل (فلسطين المحتلة)، نشعر أنّها فرصةٌ لا تُعوَّض لرؤية ما سُلِبَ منّا، نُحضِّر ونُجهز بكل شغَفٍ وطفولةٍ لهذا اليوم العظيم. نذهبُ إلى يافا وحيفا وعكا ورأس الناقورة، كلّها مدنٌ جميلةٌ، نُبهرُ بجمالها الأخّاذ، نمرح، ونتسلى، ثمّ نعود من رحلتنا بتعبٍ على قدر شغفنا، شعورُنا في كلِ رحلة يكون وكأنّما سافرنا خارج الوطن، فشتان ما بين الضفة الغربية وفلسطين المحتلة. 

ولكن لا أدري لما دائما تجرفني دوامَة أفكاري، تتسلل إليّ بخفّة ثم تبدأ عملها، تجعلني أشعرُ بالغرابة والألم، وكلما غُصْتُ فيها أكثر تألمتُ أكثر، لم تمرْ تلك الرحلةُ عليّ مرور الكرام، وكذلك أفكاري، التي أَبَت إلا أن تعكِّر صفوْة مزاجي ويومي وتؤلمني، وتوَلد داخلي غصّة، أو ربما تذكرني بغصّةٍ ولدت معي أصلاً كوْني فلسطينية، تساءلت "لماذا لم أشعر بأن هذه بلادي؟ لماذا شعرت أنها لهم؟ لماذا اجتاحني شعورٌ بأنني في الغربة رغم أنني في بيتي؟ وهل يشعر الإنسان بغربةٍ في بيته؟ لماذا شعرت بأنني لا أنتمي لهذا المكان؟ وإن كنت سأذهب يوماً إلى أرض جدي المُغتَصَبة، هل سأشعر باللاانتمائية أيضا؟ فهل فقدت انتماءي؟ وهل خنْتُ وطني بشعوري هذا؟ هل تخليت عن غاليتي فلسطين؟ كيف، كيف وفلسطين لطالما كانت من أولى مبادئي وعقائدي واهتماماتي، منذ صِغَري وحتى الآن وإلى الأبد، كيف والقضية تسري في دمائي منذ أبصرت عينايّ شمس الدنيا؟ كيف وحبّي الأول كان لبلادي؟ كيف وأول قصيدة كتبتها كانت للقدس؟، اذا كيف خانتني تلك المشاعر وجعلت مني خائنة لذاتي وهويَتي".

أدركت حجم المسؤولية الواقعة على نفسي، أدركت أننا كلنا جزء من القضية، أننا كلُّنا مسؤولون عنها، و علينا حمايتها، حمايتُها من النسيان، والضياع، ومن التحريف أيضا، وعاهدت نفسي منذها، أنني لن أنسى قضيتي مهما حييت، وأن أهم ما سأنقله لأطفالي في المستقبل هو فلسطين

أفيق من دوامتي على أصوات زميلاتي يلهونّ، أرسم ابتسامة على فمي بعد أن أدعُ على الصهاينة، ثم يمر في عقلي ذاك الدرس في كتاب التربية الإسلامية، وتحديدا تلك الفقرة فيه، سنة الله في بني اسرائيل وأنهم كلما عاثوا في الأرض فساداً لا بد من أن يأتي صلاح الدين، وعمر بن الخطاب وغيرهم ممن يذيقونهم العذاب. 

ولكنهم ماتوا، فهل نحن متنا أيضاً؟ هل ماتت وطنيّتنا؟ إذا كيف سنسترجع مسلوبنا وليس فينا صلاح الدين ولا عمر، إذاً لماذا لا نكون عمر؟ لماذا لا نخلق من أنفسنا صلاح الدين؟ من ننتظر؟ وإلى متى أيضا؟ والآن فقط عرفت سبب مرضي ليلة عودتنا وبقائي في الفراش أياماً عدة، إنها ليست البكتيريا ما جعلت حلقي يلتهب، بل إنها تلك الشوكة التي كونتها تساؤلاتي وشعوري المؤلم. بعد ذلك اليوم أصبحت خائفة، خائفة من ضياع القضية، خائفة من هذا الاعتياد الروتينيّ على وجودهم في بلادنا، خائفة من شعور الغربة ذاك، خائفة من أن ننسى أن هذه بلادنا، وخائفة من أن أكون خائنَةً للوطن.

منذ ذلك اليوم أدركت حجم المسؤولية الواقعة على نفسي، أدركت أننا كلنا جزء من القضية، أننا كلُّنا مسؤولون عنها، و علينا حمايتها، حمايتُها من النسيان، والضياع، ومن التحريف أيضا، وعاهدت نفسي منذها، أنني لن أنسى قضيتي مهما حييت، وأن أهم ما سأنقله لأطفالي في المستقبل هو فلسطين، سأزرع فيهم قبل أي حبّ حبُّ الله ثمّ الوطن، لأنني أيقنت أنّ على كلٍّ منا أنّ يوَرّث قضيتنا، فالوطن كلُّنا وكلُّنا الوطن.  ولأول مرة أشكر دوامتي، لأنها أيقظتني، ونبهتني، كمنبه الساعة السابعة، فرغم ضيقي في لحظة رنينه، إلا أنني أنسى ضيقي عندما أنهض بل وأكون ممتنة له. 

وأخيراً أعتذر لوطني، أعتذر إن كنت قد آلمتك، أو أخطأتُ في حقك، ولكنك حقّا ً لا ترى تلك الحرقة التي تسببت بها في قلبي، ليتك تفتحه لتفهم، ليتك ترى ندمي، عجزي، وحبّي، لا تعاتبني فأنتَ محبوبي الأول والأخير وستبقى كذلك، منذ نعومة أناملي التي كتبتك وستبقى تكتبك ولن تكتفي، فما قيمة كتابتي إن لم تكُن لك، أعذرني فأنا أتألم حقاً، ووحدك الشفاء والدواء يا من ملكت قلبي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.