شعار قسم مدونات

في تلك الليلة.. أيقنت

blogs- مستشفى

كان كفيلاً بليلةٍ واحدةٍ أقضيها في أروقة المشفى أن تجعلني أتجرد من نفسي، فهناك حيث تدور أرواح كثيرةٌ بين الممرات، جميع تلك الأرواح مختلفة فيما بينها أشكالها، و أعمارها، و حتى الذين هم هنا بانتظارهم مختلفين، ما يدفع عشرين شخصاً للوقوف هنا دون أي فائدةٍ عمليةٍ لهم هو شعورهم بالخوف، من بين أولئك كنت أقف بحزم أظن أن وقوفي سيحمل فارقاً عن أي أحد أخر، لكن ليس هناك ما هو أبعد من الحقيقة والواقع عن ذلك الظن.

ففي دراستي للطب لم أخلق أي فرق عنهم سوى بتحليل منطقي لتسلسل الأحداث وفهم كامل للوصف الطبي الذي ما أن تعلق موضوعه بي حتى يصيبني ارتعاش و تُمحى أي معلومةٍ في رأسي عنه، لأكتشف اليوم أننا ضعيفون أمام ما يتعلق بنا من عواطف، فما أن يمسنا السقم حتى ننهار كأي إنسان أخر فكل العلوم تندثر وتتحرك عاطفتنا فقط، و أصبحُ أتحدث بصفة الإنسان داخلي، فأنا هنا أُعَايشُ الخوف أيضاً ذلك الشعور الذي لم أعده يوماً.

في غرفة العناية المركزة حيث ليس لفارق العمر أي اعتبار، ولا يُسئَل عن أي شيء، وكل ما يُهم هم كم درجة تأزم الحالة وخطورتها، ومن جانبي الإنساني لم أعد أراها مكاناً للعلاج إنما مكاناً لتحديد مواعيد الرحيل.

يعرف الجميع أننا لسنا في بيت للأشباح ومع هذا كل الوجوه شاحبةٌ مصفرة، فأشباحٌ من الموت تحيط بالمكان، على خلاف ما يفترض به أن يكون مكاناً للهروب منها، وعلى خلاف عقائدي الطبية جميعها بأن هذا المكان وهذه الغرفة وجدت لتقدم أقصى درجات الرعاية أرى اليوم أن أكثر من يدخلها يحملون على أيديهم أكفانهم متجهزين للرحيل، وقليلون جداً أولئك الذين يخرجون منها بحياة جديدة.

في غرفة العناية المركزة حيث ليس لفارق العمر أي اعتبار، ولا يُسئَل عن أي شيء، وكل ما يُهم هم كم درجة تأزم الحالة وخطورتها، ومن جانبي الإنساني لم أعد أراها مكاناً للعلاج إنما مكاناً لتحديد مواعيد الرحيل.

فأمام وحدة العناية قد يمر شبح الموت متنكراً في أي لحظة يحمل احتمالاً لطرق باب الغرفة طالباً اسماً ما منهياً بذلك زمن انتظار طويل لمجموعة من الواقفين خارجاً محولاً إياهُ لزمنٍ من الألم، نحن نجلس هناك كبالغين نعرف ريحه عند اقتراب مروره نشعر بأنفاسه وطرقاته على الباب فيقف الجميع متجهزاً لا يسعه إلا أن يطلب رحمةً من الله ألا يكون قد وقع البلاء على أحد ويكون عبوراً تفقدياً فقط.

من أصعب لحظات الواقفين كانت عندما خرج الطبيب لينادي أين أهل أمل، ليركض ثلاثةُ شبان في لهفةٍ، أعينهم كدماء من شدة البكاء، عندما رآهم الطبيب على تلك الحالة قال مستعجلا: الله يشفيها، فتنهد معظم الواقفين، أما أمل فقد كانت قد وصلت لتوها، نحن جميعاً لم نكن نعرفها، وكل ما عرفناه أنها أصيبت بجلطة قلبية ولولا وصولها في الوقت المناسب لكانت الآن في عداد الموتى، و مع عدم معرفتنا بالكثير ولكن لم يكن أيُّ واحدٍ منا جاهزاً ليرى ألم الفقد لأي شخص أمامه.

إن هذا المكان يحمل قدرةً غريبةً على إخبارك في كل لحظة ألا مجال للراحة، فقد تسمعُ فجأةً علو صراخٍ و عويل، لتهرع جارياً من أي مكان تقف فيه، وما لم أتوقعه حينها أن أرى رجلا أربعيني العمر منع الطبيب الزيارة عن أمه لخطورة حالتها وطلب بعد ساعات من الانتظار رؤية الأخ الكبير في العائلة وحده داخل الغرفة يصرخ بهم ليدخل وعندما فُتح الباب دفع بأحد أفراد الطاقم التمريضي واتجه نحو أمه الملقاة هناك على السرير جسدٌ ساكنٌ ولكن جميع الإشارات على الجهاز تدل على أنها لازلت بينهم، كنت متأكدةً أنه كان يعي أنها لو غادرت لأخبر الطبيب الجميع دفعةً واحدة ولكن كان كطفل صغير قلبه لن يطمئن على أمه حتى يراها، ثم خرج منهاراً و رمى بجثته على الأرض أمام الباب و وضع رأسه بين كفيه و دموعه تنهمر كأن العالم كله سقط أمام ناظريه.

هنا حيث تتلخبط الأجواء بين حين وآخر وقفت كصنمٍ أراقب الجميع، وأبي يحاول مواساة مرافقي المرضى، ومن موقعي كنت أسعى بصمت أن أدرس حالاتهم النفسية، وردود أفعالهم، وأراقب أصغر التفاصيل عنهم، على أحتاج هذا الدرس ذات يوم كي أتجنب سقوطا كسقوطهم.

الوقوف على هذا الباب يعني أن ترى جمال وجه الطفل الصغير تٌمسح ملامحه من الألم، الأم خائفة، و الأب يترقب، و ولدٌ يمسكُ بيد من أحضره من والديه يدعوه أن لا يدعه يتيماً ويرحل، فحين رحيل أي أحد من نزلاء تلك الغرفة، على هذا الباب اللعين أسرة كاملة ترحل تؤخذ حزنها و ألمها و ميتهم الذي تركهم في طريقٍ لم ينتهي بهم بعد، ولكنه أراد أن ينهي هو دوره به، تاركين خلفهم خوفاً يُشعل النار في قلوب الواقفين، لا يُعرفُ من سيحين دوره فبعد رحيل الكثيرين من بقي منهم هو ما أستطيع عده على أصابع يد واحدة. 

هنا حيث تتلخبط الأجواء بين حين وآخر وقفت كصنمٍ أراقب الجميع، وأبي في جواري يحاول مواساة المارة الآتين مع كل مريض جديد، فمن موقعي كنت أسعى بصمت أن أدرس حالاتهم النفسية، وردود أفعالهم، وأراقب أصغر التفاصيل عنهم، على أحتاج هذا الدرس ذات يوم كي أتجنب سقوطا كسقوطهم، أو أجد فيه حلاً لتجنب أول مواجهةٍ ستحدثُ بيني وبين أهل المريض.

عند رحيلنا نظر والدي إلي مستغرباً صمتي الذي لم يعتد عليه أبداً و قال: أأعجبتك هذه الدراما التي ستعشينها يومياً بعد هذا؟ أحقاً تريدين حياة كهذه؟ وأكمل القيادة دون انتظار أي إجابةٍ مني، لكن سؤاله بقي يرنُ في أذنيّ طَول الطريق بحثاً عن إجابة، وعند نزولي من باب السيارة كنت قد أيقنت بأن على البحث عن راحة قلبي بتخفيف آلام الناس لا الهروب منها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.