شعار قسم مدونات

خُرافة الأوطان

blogs - Arport
كنت جالسة وظلام غرفتي بإحدى ساعات الليل الطوال، حيث تخلو الأجواء من الأصوات إلا من نباح كِلاب الأزقة ونعيق بوم بائس فوق الشجرة المائلة على شُرفة الطابق العُلويّ. استندت على النافذة مع زفرة ملل ثم مِلت بنظري إلى الأسفل؛ فلمحت أحدهم يتسلل خلسة في الظلام، تابعته حتى مرَّ تحت أحد أعمدة الإنارة؛ فإذا بها امرأة تحاول الوصول إلى حاوية النفايات الخاصة بالحي. أخذت أرقبها حتى وصلت إلى الحاوية وسحبت منها كيسًا بلاستيكيًا وفتشت به، ثم أخرجت قطعة خبز ونفضت عنها ما بها وشرعت في التهامها، شعرت حينها بغصة بالقلب، كان شعورًا سيئًا لا يشبه شيء سوى الطرق بمطرقة حديدية على الصدر حتى يتورم.

مِلت برأسي إلى الوراء وقد بدأت التساؤلات تجوس في رأسي كطاغية يبعثر طغيانه في الأنحاء. كيف تعيش هذه المرأة وكم عدد الناس الذين في مثل حالها وربما أقسى؟ هل لهؤلاء الناس مفهوم عن الوطن. وعندها حضرني قول غسان كنفاني (الوطن أللا يحدث كُل هذا). وكعادتي عندما أحاول الفرار من الواقع أسافر عبر خيالي إلى مكان آخر هذه المرة قررت السفر حيث الوطن الذي أريد.

عليك يا صديقي أن تجد وطنًا؛ إن لم يكن أرضا فقلب تسكن إليه، وكَتِف تستند عليه، لا تَعش بلا وطن؛ فالشريد لا يستطيع الدخول في قتال مع الحياة.

تخيلت أن هنالك وطن بلا حدود جغرافية فإذا أحببت أن أزور فلسطين ركبت الحافلة وذهبت دون أن أحمل بطاقتي الشخصية وجواز سفري ودون أن تقلق أمي إذ أنني عبرت الحدود وصرت في بلد آخر. أما عن طرقات الوطن فهي مليئة بالبساتين والمنازل المُلونة، لا يوجد في طريق المارة سيارات. في وطني لا توجد سيارات توجد أحصنة ودراجات وحافلات فقط للتنقل حيثما نريد.. في وطني لا يركض الأطفال بالشارع خلف كلب مسكين ليرشقوه بالنبال، ونسير نحن الفتيات بأمان.

إن وطني رائع ذو سماء دائمة الزرقة إلا في أوقات المطر، وحين تُمطر ينزل الجميع إلى الشوارع ليرقصوا تحت المطر، ويدعو الغريب للغريب بالخير، في وطني الناس يضحكون دومًا، ففي الصباح يرتدي الموظفون بِزةً أنيقة يتناولون فطورًا عائليًا ثم يقبّلون زوجاتهم ويغادرون منازلهم بِضحكة مفعمة بالحيوية بينما يذهب الأطفال إلى فصول يختارونها بأنفسهم؛ فالذي يهوى الرسم يذهب لفصل الرسم الذي يقع في حديقة كبيرة مليئة باللوحات والألوان، والذي يهوى الرياضيات والهندسة فإنه يذهب إلى حصة الهندسة في موقع بنائي افتراضي يناسب الأطفال، والذي يود أن يصبح طبيبًا يذهب إلى حصته برفقة طبيب مختص يعلمه كل فنون الطب.

في وطني يحلم الأطفال ويبنون أحلامهم ثم يحققونها. إن الأطفال في بلادي يحفظون ألفية ابن مالك والمعلقات السبع، وتروي الأمهات لهم حكايا العظماء قبل أن يخلدوا إلى النوم… الأطفال في وطني أطفال بحق، تلمع البراءة في أعينهم. أما النساء فتذهبن إلى الصالات الرياضية في الصباح ثم ترجعن إلى منازلهن ويقرأن بغرف القراءة؛ ففي وطني توجد غرفة صغيرة للقراءة في كل منزل يصممها المهندسون حسب الذوق الذي تميل إليه الأسرة، هناك تحقق المرأة أحلامها أيضًا.

في وطني الزواج هو بداية جديدة لحياة أجمل وليس مِقصلة تمر من تحتها الخراف الذاهبة إلى الموت؛  لأن في وطني هنالك شيء يدعى الحب، وهذا الحب هو شيء جميل تكتمل به الروح ويحل معه السلام. في وطني مشاعر صادقة؛ ففي كل صباح يمر ساعي البريد ليضع الرسائل بالصندوق. إن التكنولوجيا لا تدخل وطني إلا بحد معتدل؛ فالرسائل الورقية لم تنقطع واللقاءات العائلية هي مناسبة أسبوعية مقدسة.

في وطني يشرب القِط والعصفور من نفس الإناء، وتعلق على أبواب المدن أغصان الزيتون بينها أزهار الياسمين واللافندر، في وطني الحُزن جريمة والسعادة واجب وطني. كما أن لكل شخص بستان أمام منزله؛ فبستاني صغير المساحة يحاوطه سياج يلتف عليه غصن أخضر طويل مليء بأزهار الياسمين واللافندر، وفي منتصف البستان نافورة صغيرة تحاوطها أزهار الجوري السوداء، كما أن هنالك ركن لأعشاش العصافير ومنزل خشبي لأي حيوان يرغب بالنوم. وطني الخياليّ هذا يمارس الجميع فيه طقوسه الدينية كما يشاء وتقام في المساء بساحة كل مدينة حفلات راقصة يرقصون فيها الرقصات الملكية كما في العصور الوسطى. في وطني مقاهي كثيرة بها كُتب وصحف ودواوين شِعرية؛ فالمقهى المقابل لشرفتي بعدما يفتتح صباحه بالقرآن يغمر أرجاءه صوت نزار قباني بقصائده الحساسة، فما أحلى الصباح حين يوقظني صوت نزار قائلًا:

صباح الخير يا قديستي الحُلوة
مضى عامان يا أمي
على الولد الذي أبحر
برحلته الخرافية
وخبأ في حقائبه
صباح بلاده الأخضر

في وطني يحلم الأطفال ويبنون أحلامهم ثم يحققونها. إن الأطفال في بلادي يحفظون ألفية ابن مالك والمعلقات السبع، وتروي الأمهات لهم حكايا العظماء قبل أن يخلدوا إلى النوم…

أما المقهى الذي يقع في آخر الشارع فصاحبه درويشيّ أصيل؛ ففي الصباح يسمعنا قصيدة "أحن إلى خبز أمي" وفي المساء يأتينا صوت درويش من مذياعه قائلا:
حملت صوتك في قلبي وأوردتي
فما عليك إذا فارقت معركتي
كل الروايات في دمي مفاصلها
تفصل الحقد كبريتًا على شفتي

وعندما أقرر والأصدقاء السير بالشوارع ليلًا نرى على المنصة الخشبية بالساحة العامة أحد الشباب يلقي قصيدة للمتنبي تعقبها معلقة عنترة ويختتم الأمسية بإحدى قصائد الحلاج. أفقت من هذياني وخيالاتي فوجدت نفسي ما زلت قابعة في غرفتي والمرأة قد غادرت وسكنت الكِلاب وطار البوم، وبقيّ لي أثر الخيال؛ فالواقع شيء والخيال أشياء، ففي الواقع الوطن ليس أرضًا فقط، قد يكون الوطن قلبا في قربه تكون الدنيا بنفسجية اللون ومطعمة باللون الوردي، ويصبح القلب في حضوره ساكنًا كسكان السماء.

في الواقع، الوطن صعب المنال؛ فيصبح الوطن الوحيد الذي نستطيع إيجاده واللجوء إليه هو الحُب؛ ومن لم يجد وطنًا يؤويه حتى ولو في خياله خاب وتِعس. عليك يا صديقي أن تجد وطنًا إن لم يكن أرضا فقلب تسكن إليه، وكَتِف تستند عليه، لا تَعش بلا وطن؛ فالشريد لا يستطيع الدخول في قتال مع الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.