شعار قسم مدونات

حبيبتي تحتاجُ لتعويذة

Blogs - Aleppo
هنا مرّت قوافي المتنبي، وتزاحمت على أبوابها العظام أطياف الأدباء، كانت ملهمة المبدعين وحصناً شامخاً على رأسها تتدلى قلعة كالتاج. مدينة الفنون وذات القلب الكبير الحنون، خذلها القريب قبل الغريب، فانداح الطير عن عشه جريحاً مرتعشاً، لم يحمهِ ريشه الغض من تلك القذائف المحملة بالحقد والموت والنار. 
 

حلب الحب، الجمال، الشعر، أيّ بشر نحن حتى يضفر الدم جدائلكِ ويعبث الإجرام الأسود الغاشم الجبان بحبات المسك التي تفصدت عن جبين الزمان فأتت بكِ! شهباء السحر وإيقاع البنفسج وتراتيل الشبابيك الفواحة بالقرنفل والتسابيح، أية قلوب عمياء تكتنف جوانحنا ونحن نسمح لوحش بليد عربيد جشع سفاح أن يشوه هذا الجمال؛ أن يمد يداً نتنة من الكره والنار إلى محاسنك المتناهية في العذوبة، إلى جدرانك المطلة على روح الشمس، إلى أطفالك اللاعبين بشغف على سطح البراءة، إلى نسائك الراقيات المتخضبات بالعفاف، إلى رجالك الأشمّاء كالجبال هيبة وقوة، حتى أحالت تلك اليد الكريهة محاسنك إلى بقايا من ندف العروبة، وجدرانك إلى أحجار محطمة من النخوة الشحيحة، وأطفالك إلى أشلاء بختم الضمير العالمي، ونساءك إلى زهور ذابلة جففها الدم والغبار، ورجالك إلى قهر متكئ على فراغ عربي.

كان "الحمداني" يقولُ عنكِ الشعر، لو رآكِ الآن لمزّق نفسه إرَباً، فأيُّ شعر يصف حالكِ المفجع، وأي كلام؟! إنني اليوم أشيخ ألف عام، كلما تعاظم حزني أرى العالم يصغرُ ويصغر! بل أخجل من أحزاني أمام مصابك الجلل.

حبيبتي حلب…
كان الليل يكحل عينيكِ فيرقد السِحرُ على أطرافهما، ويصافح القمر بضيائه السور المحيط بوجهك المتهدل على أكتاف الجمال. واليوم يسلبُ المجرمُ كحل عينيك ويحرمهما من الرقاد، ويهرب البريق مختبئاً تحت أجفان الوهن، ويلوذ القمر بحضن السماء باكياً متأسفاً على ذاك السور الكسير والوجه الشاحب والأكتاف المنهارة التي ما وجدت جداراً عربياً تستند إليه.

المجرمُ الذي يسرقُ الحسناء ويعبثُ بشرايينها، ويدمر منازل القمر على رفوف سمائها، ويغتال صبية الورد، وطفولة البَرَد، وشيخ التاريخ، ورجل الزمان، المجرم الذي يفعل كل ذلك ماذا ترك للشيطان؟ بعد أن اختزل كل إجرام العالم بما فيه من سفك وشر وقذارة، وقدمها لأسياده، قدم الحسناء حلب على طبق من الدم، فسحقاً لعالم يرى الإجرام في أشنع صوره ولا يبالي.

فلا تنتظر أيها العالم البائس أن نصافح ورودك التي تضعها على قبور شهدائنا، أو نشكرك على تلك الخيم التي تقدمها لأيتامنا ومشردينا، لا تنتظر منا نظرة رأفة، بل انتظر الطوفان البشري الذي سيزلزل الأرض، وقولوا عنا إرهابيين بعد ذلك. فلو أن بلادكم التي تدمر؛ لمسحتم المجرم وذريته عن وجه الأرض، لو أن أبناءكم من يقتلون؛ لأقمتم العالم ولم تقعدوه، بلادي تستباح بطولها وعرضها، وشعبي يُذبح على امتدادها، موطن الحضارات والتاريخ، الموغلة في الأصالة، ولا يزال الصمت وجهتكم.

قبل أعوام عديدة كان "الحمداني" يقولُ عنكِ الشعر، لو رآكِ الآن لمزّق نفسه إرَباً، فأيُّ شعر يصف حالكِ المفجع، وأي كلام؟! إنني اليوم أشيخ ألف عام، كلما تعاظم حزني أرى العالم يصغرُ ويصغر! بل أخجل من أحزاني أمام مصابك الجلل، الإنسانية تعرّت من كل قيمها، وانسلخت عن كينونتها، فأية طاقة تحتمل ما يحدث على أرضك، أرض التاريخ والأجداد والحضارة، ما من شبر فيكِ إلا وجُرح، وهُدم، وقُتل أهله.

النعيُ اليوم ليس نعياً عليكِ وعلى شهدائك، بل ننعى العالم بأسره، بحكوماته، وشعوبه، العالم يقف متفرجاً على إبادتك، العالم أصم أبكم أمام جرائم الإنسانية في حقك، بينما هو متابع بحماس أخبار المباريات، وأخبار المشاهير. ماذا عساي أفعل يا حبيبتي ولستُ سوى فتاة تخالط الدمع بالحبر، تخالط الوجع بالروح، تتمنى أنها ماتت منذ زمن ولم ترَ هذا الدمار البشري، وهذه الإنسانية المخزية الصامتة، أمام مائة ألف إنسان مهددين بالإبادة.

لا كتب الحزن، ولا مجلدات الفجائع، ولا مكتبات الوقائع، تصف مآسيكِ، لا شيء من ذلك يصفُ لحظة انهيار مبنى على أهله، أو الجثث المرمية في الشوارع، أو عجز الدفاع المدني عن إنقاذ الناس، وتكرر ذلك عشرات المرات يومياً. أن تفقدَ المأوى في ظل ظروف طبيعية يُعدّ من أكبر المصائب، فكيف إن فقدتَه في ظل حرب مستعرة، وإبادة ممنهجة، سوف تموت نفسياً قبل أن تصلك القذائف.
 

حبيبتي تحتاجُ لتعويذة
أصابها الحُسّاد بالعين لحسنها وبهائها
صارتْ مدينة الموتى
بعد أن كانت توزع الحب عن اليمين وعن الشمال
بعد أن كانت تشع نوراً
سلب المجرمون ضوء عينيها الجميلتين

حرموها من أطفالها اللاعبين تحت قمرها
أصبح الدمُ ملعبهم
وباتوا يفارقون الحياة
معانقين الكتب والأقلام
حبيبتي تحتاج لتعويذة
كانت ابنة الشمس المطلة على غيم الأمنيات

وغدتْ أرملة الليل
تخبّئ دموعها تحت وسادة الركام
سلبوا من قلبها الدم الدافق بالحياة
أحالوا ورودها أشواكاً
وأغنيات المساء
إلى أصوات القذائف

لم يعد هناك متسعاً للعزاء
لا تكفي مقاعد العالم كله للحضور
فأعداد الموتى أكبر من المكان والزمان
في حلب
مات خليفة البشر
متسمماً بالصمت أمام المجازر

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.