شعار قسم مدونات

تُعمي الحماسةُ الأبصارَ أحياناً

blogs ثورة مصر

تُعمي الحماسةُ أبصارَنا أحيانا، ويصرفنا اندفاعنا الثوريُّ العفَويُّ، وغريزتنا العاطفية عن التمحيص والتدقيق في الأمور ومجرياتها، ولا نرى من الأحداث الجارية إلا قشورها وسطوحها، ونظن أن في بعضها الخير، وفي حقيقتها وباطنها الشرَّ الدفين والسُّمَّ الزعاف.

ومن ذلك ما جرى إبَّان ثورة الخامس والعشرين من يناير في مصر الكنانة، ففي حين أنَّا كنا في خِضمِّ المخاض الثوري، والاندفاع الشبابي العفوي، متأثرين بما حصل في تونس الخضراء من ثورةٍ أضرمت نيرانها روحُ (البوعزيزي)، وتطايرت شراراتها في الوطن العربي، تلقفتها قلوبٌ وضمائر حية، وأرواح ثائرة، قد كفرت بصورٍ وأصنامٍ ظلَّ أجيالٌ منا لها خاضعون.

وفي ذلك الوقت كان الشبابُ المصريُّ المحرك الأول للثورة المصرية، بحماسته الشبابية وريادته الثورية المعهودة، والتوَّاقة للانعتاق من قيود التبعية والارتهان لأنظمة التوريث، ودخلت الأحزاب السياسية العتيقة المتهالكة معه في خط الثورة، حتى يتسنى لها الحصولُ على نصيبٍ من نتاج هذه الثورة (إن انتصرت). وحينها لم نكن نعي وندرك ما يُحاك ضد الثورة الشبابية، من مؤامراتٍ والتفافات من قبل العسكر والفلول ومومياوات الأحزاب الهرمة، وكنا مسحورين ومخطوفين بشعاراتٍ وطنيةٍ رنَّانةٍ على وزنِ (الجيشُ والشعبُ يدٌ واحدة)، بينما كانت الحقيقة أن (الجيشَ والفلولَ يدٌ واحدة وقلبٌ واحد)، وكان الجيشُ يُحيك مؤامرته وخطته بطريقة واضحةٍ لا لبس فيها، إلا أننا لم نرى ذلك ولم نفقهه.

بعد المستوى الهابطِ والسحيق من الانحطاط الأخلاقي والسياسي والثقافي والإعلامي الذي وصلت إليه مصرُ العظيمة في ظل الانقلاب، بعد كل ذلك، أليس الواجب علينا ألا نندفع وراء حماستنا وعاطفتنا، وأن نتريَّث قليلا في الحكم على الأمور

وتوالت الأمور والأحداثُ منذُ استلام المجلس العسكري للسلطة بعد تنحي المخلوع (حسني مبارك)، والناسُ تحركهم حماستهم وانبهارهم بخلعِ رأسِ النظام، وإزاحة رموز الحزب الوطني الفاسد وحَلِّهْ، وبعفويتهم ونُبل مقصدهم، وعاطفتهم الوطنية الصادقة تجاه جيشهم المسلوب من قبل قياداته المأجورة، ظنَّ الناسُ أن الجيش حامي الشعب، وأن الجيش لا يطمع في السلطة، ووثَقوا فيمن لا ثقة له وائتمنوا من لا يُؤتمن، فكان ما كان من العسكر، ووقع ما وقع من الفلول.

ولم يكد يتولى السلطة رئيسٌ شرعي منتخبٌ بأول انتخابات حرة ونزيهة بشهاداتٍ محلية ودولية وإقليمية، تشهدها مصرُ في تاريخها، وهو الرئيس (محمد مرسي) حتى تكالبت عليه كل القوى الفلولية وقيادات العسكر، وعملت بكل ما أوتيت من قوة، وسلطة متبقية لديها لإفشال المشروع الوطني الديمقراطي، وإفشال شخص الرئيس المنتخب، والانتقاصِ من حملة المشروع النهضوي، بل والانتقاص من مشروع الدولة الإسلامية عموما، متحججةً تارة بأزمات اقتصادية مفتعلة، وتارة بملفات أمنية شائكة وعالقة، وبقضايا دستورية وتشريعية مرات عديدة.

 

أو عن طريق حملات تحريضية عبر ترسانة إعلامية هابطة، وجَوقَة من المثقفين والكتَّاب المأجورين المتربعين على قمم منابر صحفية ذات مكانة مرموقة في الوسط الثقافي المصري، امتهنت على مدى عقود من الزمن شتى الأنواع من فنون الرذيلة والنفاق، تُقلل من حجم الإنجازات المكتسبة، وتُهوِّلُ الأخطاء والعثرات وتُضخِّمها، وتصور لهم من الحكومة المنتخبة غُيلانا وشياطين، وتنسج لهم من العسكر ملائكة مُنقذين، وأبطالا فاتحين، واستدرجتهم لثورةٍ مضادة لما ثاروا عليه من ظلم واستبداد، وظل الناس على سيرتهم ماضون وبحماستهم وعفويتهم يُقادون.

والآن، وبعد مُضي ما يقرب من أربع سنوات على الانقلاب العسكري المشين في حق مصر أولا وفي حق الجيش نفسه ثانيا، وفي حق العروبة ثالثاً، وبعد كل الجرائم المرتكبة بحق الشعب المصري الأبي التوَّاق للحرية، وبعد المستوى الهابطِ والسحيق من الانحطاط الأخلاقي والسياسي والثقافي والإعلامي الذي وصلت إليه مصرُ العظيمة في ظل الانقلاب، بعد كل ذلك، أليس الواجب علينا ألا نندفع وراء حماستنا وعاطفتنا، وأن نتريَّث قليلا في الحكم على الأمور، وأن نَزِن المواقف والأفعال بميزان الصدق والثبات على المبادئ، وأن نقيس الناس بما يصدر منهم من أقوال و أفعال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.