شعار قسم مدونات

النسق الفكري وأحوال المجتمعات

blogs - مجتمع

استوقفني مرارا ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: ((منعتِ العراقُ درهمَها وقفيزَها، ومنعتِ الشامُ مُدْيَها ودينارَها، ومنعتْ مِصرُ إردبَّها ودينارَها، وعدتُمْ مِن حيثُ بدأتُمْ، وعدتُمْ مِنْ حيثُ بدأتُمْ، وعدتُمْ مِنْ حيثُ بدأتمْ)) (صحيح مسلم). وعكفت عليه محاولا استقصاء معناه ومدلولاته، وجل ما وجدته من محاولات لفهم الحديث تنحصر في تطبيق مضامين الحديث وإسقاطه على الوقائع التاريخية التي مرت على العالم الإسلامي في الأزمنة المختلفة. وأخرها أحداث العراق وسوريا والثورات العربية الحديثة.

 

وإن جاز لي أن أقسم الحديث الشريف إلى جزأين: جزء تقريري لما كان سيحصل مستقبلا (عندما قاله النبي صلى الله عليه وسلم)، والثاني تاريخي يتعلق بالعودة إلى ما كنا عليه (قبيل فترة البعثة وبواكيرها)، والذي تم التأكيد عليه ثلاث مرات بالقول: ((وعدتُمْ مِن حيثُ بدأتُمْ، وعدتُمْ مِنْ حيثُ بدأتُمْ، وعدتُمْ مِنْ حيثُ بدأتمْ)). ونخلص من ذلك أنّ الشروحات تعلقت بالجزء الأول من الحديث، ولم تتطرق إلى الجزء الثاني منه، على اعتبار أن فهمه تحصيل حاصل لما كانت عليه العرب – بشكل خاص – قبل البعثة المحمدية من الشرك والانقسام والضلال …الخ.

ولا شك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث رحمة للعالمين كافة. بغض النظر عن أعراقهم، وأجناسهم، وألوانهم، ومجتمعاتهم. وأن كلامه لا يصدر عن هوى، وإنما عن وحي يوحى. وهذا ما دفعني لمحاولة فهم معنى وعدتم من حيث بدأتم وفقا لنسقين: نسق فكري، ونسق اجتماعي، كانا سائدين في الجزيرة العربية وما يحيط به من حضارات وثقافات.
 

الجهل وتدهور الجانب العلمي والتعليمي، وانتشار الخرافات. هذه الخصيصة لم تكن وسما لمجتمعات شبه الجزيرة العربية، بل سمتا عاما للمجتمعات في الحضارات المختلفة التي كانت موجودة بعيد القضاء على الحضارة اليونانية

مع نهايات القرن الخامس وبواكير القرن السادس الميلادي ظهرت الدعوة إلى الدين الإسلامي، وكانت تحيط بشبه الجزيرة العربية (مركز الدعوة ومنطلقها)، عدد من الحضارات (كالفارسية والرومانية والبيزنطية) إضافة إلى الهند والصين. والمتتبع لحالات هذه الحضارات تاريخيا، يلحظ بما لا يجعل مجالا للشك، أنها تشترك فكريا واجتماعيا مع ما كان موجودا في شبه الجزيرة العربية بعدة مشتركات.

ولعل الملمح الأول المشترك، هو الجهل وتدهور الجانب العلمي والتعليمي، وانتشار الخرافات. وهذه الخصيصة لم تكن وسما لمجتمعات شبه الجزيرة العربية، بل سمتا عاما للمجتمعات في الحضارات المختلفة التي كانت موجودة بعيد القضاء على الحضارة اليونانية، والتي بلغت ذروتها مع نهايات القرن الرابع والقرن الخامس الميلادي. لتولد الدعوة الإسلامية من رحم هذه الظلمة العلمية والتعليمية في العالم أجمع. ولا عجب أن يكون أول ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم سورة العلق " اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ" ولتجد بعد ذلك، أن القرآن الكريم يحث على منهج التفكر والعلم، ولا تكاد تخلو صفحة من صفحاته من ذلك، شاملا كل أنواع التفكير، في المخلوقات، والسماء، والأرض، والإنسان، والمجتمعات…. إلخ.
 

ونلمس أهمية هذا الجانب، بالتطبيق العملي للرسول صلى الله عليه وسلم مع البذور الأولى للمجتمع الإسلامي -ولعل ما يبرز للذهن بشكل عفوي- حادثة اشتراطه صلى الله عليه وسلم لفداء الأسرى تعليمهم لعشرة من المسلمين. إذا فهي دعوة علمية بامتياز منذ اللحظة الأولى. أما الطبقية والعبودية كملمح ثان رئيس في تلك الفترة، فقد هيمنت بشكل كبير على المجتمعات، سواء في شبه الجزيرة العربية، او ما جاورها من حضارات. وإن كانت تبدو في المجتمعات التي تحيط بشبه الجزيرة العربية بشكل أكثر دقة، وأكثر صرامة. حيث التوزيع الطبقي لأفراد المجتمع يخضع لمجموعة من القواعد والمعايير التي ترتبط بها العديد من الحقوق والواجبات.

 

لتأتي الدعوة الإسلامية بثورة حقيقية – إن جاز لنا التعبير – على هذه الطبقية، وتشكل نقلة نوعية للبشرية جمعاء، بأن لا تمييز ولا تفريق على أساس العرق، أو الجنس، أو اللون. والآيات والأحاديث النبوية الدالة على ذلك كثيرة. ولعلك تتخيل في التطبيق العملي، أنْ يأتيك مسلمٌ من مكان ما إلى مكان إقامتك، ولديك أموالٌ وأراض وبيت ويطلب منك ان تقتسمه معه، فقط لمجرد أخوة الإسلام، فتطيب له نفسك وتقتسمه معه. نعم هذا ما حدث كأول اختبار حقيقي مع بدايات تكوين المجتمع الإسلامي، عندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، وآخي بين المهاجرين والأنصار. وكأن الرسالة الأولى لهذا المجتمع الإسلامي أنه مجتمع عالمي، لا يفرق بين أحد، وانه يـَجُبُّ ما هو موجود على وجه هذه الأرض من طبقية مقيته قامت عليها الكثير من المجتمعات والحضارات في شبه الجزيرة العربية وما حولها. 
 

نحن أقرب في المجتمعات العربية الحديثة إلى الأحوال المجتمعية التي سبقت الدعوة الإسلامية. بل وبدأت المجتمعات الحديثة التي تحيط بالمنطقة العربية تعاود نفض أتربتها وأقنعتها التي تجملت بها لعقود، لتغرق من جديد في مستنقع الطبقية والعنصرية بأشكال ومسميات جديدة

هذان الملمحان وطريقة معالجتهما، يعتبران من أبرز ملامح القوة التي بنيت عليها عالمية الإسلام، متمايزة عن الحضارات والمجتمعات الأخرى. فعن طريق العلم تنبذ الخرافات والأوهام، وترتبط ارتباطا مباشرا بخالق هذا الكون ومدبره، وهذا ما ظهر تطبيقيا عند الأوائل والسابقين من المسلمين، فالاهتمام بالجانب العلمي والتفكير، وإتباع القواعد الصارمة في علومهم، جعلتهم واحة العلم والازدهار، ومشعل النور والهداية للبشرية جمعاء. وأفرز هذا الاهتمام العديد من العلماء المسلمين في شتى صنوف العلم والمعرفة، فأبدعوا تحت مظلة الإسلام بغض النظر عن أصولهم ومنابتهم وألوانهم، بتفكير علمي عالمي ينبذ الخرافة والفرقة والاختلاف، ويخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. ولك أن تتخيل أنهم طبقوا القواعد العلمية حتى فيما يخص الجوانب الدينية، فاتبعوا الطرق العلمية الدقيقة عند جمعهم لأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يعرف بعلم الجرح والتعديل.

لعل فيما سبق مختصرا للأنساق الفكرية وأحوال المجتمعات عند بدايات الدعوة الإسلامية. وأزعم أن العالمية الإسلامية كانت مزدهرة منيرة عندما حرصت على هذين الملمحين (العلم والمساواة). وبدأ الوهن يدب فيها عندما تفرقت وأطلت الطبقية بأشكالها الجديدة على العالم الإسلامي من جديد، فتفرقت دولا وطَوَائفَ وأعراقاً يـــَمْقُتُ بعضها بعضاً، فكانت لبعضها وهن على وهن. 

ونحن أقرب في المجتمعات العربية الحديثة إلى تلك الأحوال المجتمعية التي سبقت الدعوة الإسلامية. بل وبدأت المجتمعات الحديثة التي تحيط بالمنطقة العربية تعاود نفض أتربتها وأقنعتها التي تجملت بها لعقود، لتغرق من جديد في مستنقع الطبقية والعنصرية بأشكال ومسميات جديدة. وما فوز العديد من أحزاب اليمين في أوروبا إلا دليل على ذلك. عداك عن أميركا والتغيرات الجذرية الحاصلة فيها.

وما أحوالنا العلمية وتراجع الاهتمام بالجوانب الفكرية والعلمية ببعيد عن ذلك. فنسبة مشاركتنا في الإنتاج العلمي العالمي تكاد تنعدم في بعض المجالات. وما زلنا نرزح لاستجداء العلوم والتكنولوجيا في الزراعة والصناعة …الخ. فالأمية اليوم ليست أمية الكتابة والقراءة بقدر ما هي أمية المعلومات والمعرفة والتكنولوجيا. والتي باتت حكرا على مجموعات معينة من الشركات العالمية بالرغم مما يتراءى للبعض من ثورة علمية وتكنولوجية سبغت نهايات القرن الماضي والقرن الحالي. فهل نحن بحاجة لاستلهام هذين الملمحين لمعاودة النهضة من جديد؟ وهل ينطبق علينا.. وعدتُمْ مِن حيثُ بدأتُمْ؟ أم أن هناك بصيص أمل تحمله لنا ثنايا المستقبل؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.