شعار قسم مدونات

العرب وحروبهم.. لحظة الانبثاق

blogs -جنود
منذ أكثر من 60 سنة تحاول الأمة إعادة اكتشاف نفسها، بعد نهاية الحرب العالمية التي أعادت تكوين الخارطة العالمية، خرجت الرقعة العربية إلى عالم لم تشارك في صنعه ولا اختيار موقعها فيه، لقد كان فعل الدهشة والمفاجأة والربكة والغضاضة الأيديولوجية؛ العامل الأبرز الذي شكل توجهات الأنظمة والشعوب حينها، لقد كان شبه سلوك انفعالي بدائي، اندفاع العقل العربي نحو فكرة القومية والوحدة العربية وفق السلم القيمي الذي أعادت تشكيله سنوات الحرب والنضال ضد الاستعمار الغربي.

بعد هزيمة 67 المؤلمة أصيب نموذج القومية بشرخ كبير في الوجدان العربي، واتسع الشرخ تدريجيا من القمة إلى القاعدة، بعد أن أيقنت الأنظمة العسكرية الحاكمة ذاتها، أن القومية وحلم الوحدة ليس مشروعا أيديولوجيا مؤسسا فلسفيا، لأنه لا يقوم على بناء مفاهيمي واضح، ولا يقدم بالتالي أي إجابات دقيقة وموضوعية لمشاكل التسيير وتحديات العالم الراهنة.

انتهى الأمر بالحكام إلى اعتناق الأيديوجيا البدائية للسلطة المطبوعة بالفساد المطلق، وبالشعوب إلى البحث عن حبل نجاة آخر، لم يكن ليوجد إلا في ثان مقومات "الهوية الموروثة" التقليدية، وهو الدين، وما دام الإسلاميون لم يمارسوا السلطة فعليا فلن يكتشفوا عبث دعواهم، وسيكون صعبا على الشعوب التخلص من سحر هذا الوهم.

تحت ضلال هذا التجاذب والتنازع الهوياتي، كان طبيعيا أن يحين موعد التصادم المباشر ولحظة التلاقي الحتمي بين البحثين التائهين عن مشروع هوية، وهي لحظة مركبة كونها تأتي بعد أن ضل كلا الباحثين الطريق (حتى ولد بينهما من يدعو إلى العودة إلى مدخل المتاهة من الأساس "السلفية")، وبعد أن تراكمت مخلفات عقود من الفساد والتوهان والتخبط، ما أوصل المجتمع إلى مأزق عويص ولحظة بالغة الاشتكال، تتجلى أكثر شيء في مسألة "فقدان المعنى"، كل شيء فقد معناه، حتى المقدس، فلم يعد للحياة معنى..

الحروب العربية الحالية إذن من وجهة نظر سوسيو تاريخية هي التي ستدخلنا زمن الحداثة، فما وصلنا إليه من إفلاس وانهيار أساسه قيمي، والحرب وإن لم تكن الخيار المرغوب فهي الخيار المطلوب.

ملايين الناس تموت وتقتل وينكل بها دون أن يكون لذلك أي معنى، لأن الحياة أيضا فقدت معناها، فالناس تعيش وتحيا بكثير من اللامبالاة، فاقدة للإحساس بالجدوى والغاية، الحياة كقيمة كبرى وعليا فقدت معناها، فكان من الطبيعي أن تفقد أي قيمة أخرى معناها، فلا قيمة للعمل، ولا قيمة للصدق، ولا قيمة للشرف، ولا قيمة للنبل.

الحروب التي اندلعت مؤخرا على امتدادا المنطقة العربية، تشكل الانفجار المتوقع الناجم عن هذا الإفلاس القيمي الهوياتي، فهي بمثابة نتيجة طبيعية للصراع القديم، ولكنها من جانب آخر ثمن عادل لإعادة إحياء المعنى، لانبثاق الأمة من جديد، وليس مفهوم الأمة هنا بالمعنى الوحدوي الغائي القديم، ولكن بالمعنى السوسو تاريخي، أي ميلاد جديد للعرب "الحادثة" على أرض الألفية الثالثة، عرب لا يبحثون عن هويتهم في الماضي، بل يصنعونها على ما تفرضه تحديات راهنهم ومستقبلهم، دون أن يكون لشعارات الأخوة والتاريخ المشترك والمصير الواحد، أي حضور أو تأثير في العلاقات فيما بينهم، لتحل محلها علاقات المصالح المشتركة والتوافق الاستراتيجي.

برغم ألم وعنف وقسوة هذه الحروب -التي سوف تستمر لزمن قادم وتمتد لأقطار أخرى- أرى أنها مسلك ضروري وضريبة لا بد منها لإعادة تأسيس نظام القيم على قواعد وضعية، فعبر عمر البشرية، كان زمن الحروب هو زمن ارتقاء قيمة الحياة ومعنى الموت وقيم التضامن والشجاعة والتعاون ونكران الذات ونبل الغاية.

صحيح أن فكرة العبث حين ظهرت في أوروبا ظهرت زمن الحرب أواسط القرن العشرين، وقد جاءت تعبيرا عن حالة يأس بسبب الحرب، وأيضا كثورة في وجه ثوابت الحداثة الأوروبية التي أوصلتها أسئلتها الوجودية إلى مأزق فلسفي كان العدم أبرز مكوناته، لهذا لم يجد العبث أي مكان له عند اليابانيين، أو عند الألمان، رغم المآسي التي جنوها من الحرب، بل بالعكس كانت الحرب سببا قويا لتأصيل وإعادة ترتيب منظومة قيمهم بإدخال قيم التعايش والتعاون فيها والحفاظ دوما على قيم التفوق العمل والتميز.

الحروب العربية الحالية إذن من وجهة نظر سوسيو تاريخية هي التي ستدخلنا زمن الحداثة، فما وصلنا إليه من إفلاس وانهيار أساسه قيمي، والحرب وإن لم تكن الخيار المرغوب فهي الخيار المطلوب لتأسيس قاعدة الانبثاق الجديدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.