شعار قسم مدونات

الرجل الذي عطس

blogs-ماريونيت
لم يجد مدير الشركة مفرًّا من أن يستغل الموظف المعوز لديه في الاستيلاء على أموال المؤسسة مستغلاً ظرفه الماديّ القاسي، وظرفه الصحي الطارئ، فمرضه الخبيث لن يمهله أكثر من 9 أشهر ليجهز على أعضائه الحيوية ويطرحه على فراش الموت. -" استغِل الفرصة، واستمتِع بما تبقى من أيام حياتك، المال وفير، والمساءلة ساقطة بسقوط جسدك في حفرة القبر"، هكذا أقنعه المدير بتزوير المستندات لصالحه والحصول على نسبة ربح سَالَ لها لعاب الموظف المسكين. 

اغتنى الفقير، واستفحش ثراء المدير الفاسد، وبمرور الوقت بدأت تنكشف عملية التلاعب، وبدأ التحقيق بعد حوالي 8 أشهر من عملية السرقة والاختلاس. لم يبقَ كثير من الوقت، أوشكت مهلة الموت على الانقضاء، والموظف مبهور بحالة الثراء المفاجئ التي أسَرَه بريقها، عند هذه اللحظة استفاق على حقيقة أن الفحوصات الطبية التي تؤكد موته في المهلة المحددة لا تخصه، وإنما هي لمريض آخر فارق الحياة فعليًّا، سيعيش، وعليه الآن أن يواجه مصيره المحتوم بالسجن والتشرد. هذه باختصار قصة أحد الأعمال الدرامية التي عُرضت في فترة الثمانينيات، سُمِّيت كذلك لأن الشخصية الرئيسة في العمل كانت تعطس طوال الأحداث، حتى ماتت في النهاية بسبب عطسات قوية متتالية.

فـ(العاطس السياسي) بمواقفه السياسية المثيرة للجدل، المتقبّلة للأمر الواقع وإضفاء الشرعية على المستبد  من خلال الدخول في منافسته على السلطة المنتزعة بقوة السلاح، و(العاطس الديني) بفتاواه الشاذة في بعض المسائل التافهة!

السياسة زاخرة بالعاطسين الذين ليسوا أكثر من دمى يحركها المستبد للحصول على أكبر قدر من المكسب في مواجهة المعارضين، كثير من الكيانات السياسية لديها قناعات ذاتية بالضعف والخور، وأنها عرضة في أية لحظة للزوال وانقطاع الشعبية المصطنعة، ومثل هذه تسعى في اكتساب شعبية الانضمام إلى فريق المستبد بأية طريقة، لذا فإنها لا تبالي بالانطراح تحت أقدام المستبدين وتنفيذ الأجندات الاستبدادية ببراعة مطلقة، وبمَلَكية أشد من الملك، والتحوُّل من أداء دور سياسي وطني فاعل إلى مجموعة من الأذناب المبررين لأفعال المستبد وإجراءاته القمعية، وإلقاء تبعة الخراب الحالّ على البلاد على الشعوب المقهورة الذليلة، الكسولة حينًا، والعاصية حينًا، والمستحقة لعقاب الرب حينًا. إضافة إلى استخدامها من قِبَل المستبد باعتبارها عصا غليظة على المعارضين بالقدح فيهم والطعن في ولائهم السياسي والديني والوطني. هكذا يعطسون.

لقد تحوّل (العاطس) من أيقونة سياسية، أو دينية، إلى مجرد أداة للإلهاء وصرف الانتباه عن جرائم المستبد؛ فـ(العاطس السياسي) بمواقفه السياسية المثيرة للجدل، المتقبّلة للأمر الواقع وإضفاء الشرعية عليه من خلال الدخول في منافسة المستبد على السلطة المنتزعة بقوة السلاح، و(العاطس الديني) بفتاواه الشاذة في بعض المسائل التافهة، ومواقفه الدينية الصارمة تجاه قضايا أخرى مغرقة في الفرعية وبعيدة كل البعد عن واقع الحياة واستبداد المستبد؛ صارا ترسين في آلة الإلهاء الكبرى التي يتزعمها المستبد بنفسه. والمواطن المسكين يسير في العتمة مذهولاً، إذا أخرج يده لم يكد يراها. 

إن صوابية نظرية المؤامرة القائلة بأن المستبد يصطنع الأزمات الصغيرة ليلفت الانتباه عن الأزمات السياسية الماحقة؛ ليست محل شك، – على الأقل عندي -، لكنها أخذت صورة أكثر تطورًا في هذا العصر جعلت الكثيرين يتحسسون من وصف أزمات الإلهاء بهذا الوصف نظرًا لكثرتها وتعاقبها وخوفًا من وصم أنفسهم بالسطحية أو الحساسية.

كان المتعارف عليه أنه كلما أراد المستبد أن يتحرك تحركًا يخشى ردة الفعل الشعبية تجاهه فإنه يحرّك الماء الراكد لأزمة جديدة، أو يعيد إنتاج أزمة سابقة بتغطية إعلامية موجهة من إعلام الدولة أو الإعلام الخاص الذي هو ذَنَبٌ من أذنابه، أما الآن فإن الاستراتيجية المتبعة للإلهاء هي استراتيجية (الإغراق) لا مجرد الإلهاء البسيط، وهو متناسب إلى حد ما مع حجم المشكلات التي يغرق فيها المستبد حتى أذنيه، وذلك بإغراق البلاد في حالة لا متناهية من الأزمات، لا يكاد يفيق المواطن من أزمة إلا ويجد الأخرى في ذيلها، أزمات عتيقة تلحقها أزمات مستحدثة، وكلٌّ في فلكٍ يسبحون.

 كلما أراد المستبد أن يتحرك تحركًا يخشى ردة الفعل الشعبية تجاهه فإنه يحرّك الماء الراكد لأزمة جديدة، أو يعيد إنتاج أزمة سابقة بتغطية إعلامية موجهة من إعلام الدولة.

فاليوم أزمة مواد غذائية (سكر – أرز – غلاء أسعار بشكل عام)، قبلها بأيام أزمة إعدام مجموعة من الأبرياء، يلحقها أزمة الجزيرتين المصريتين، وفي خضم ذلك تمرير لقوانين مشوِّهة للحياة السياسية في البلاد، وفي الأثناء يترعرع الدولار ويتعملق، واطئًا الجنيه تحت حذائه الغليظ، مع مطالبات باقتصار إنفاذ حالات الطلاق أمام المأذون، مع فتوى تافهة من (العاطس الديني) حول أغنية هابطة (آه لو لعبت يا زهر)، فضلاً عن بث الإشاعات والأخبار المكذوبة عمدًا كما اعترف بذلك أحد القادة التاريخيين للاستبداد… وهكذا، ليجد الشعب نفسه في متاهة لا يكاد يفيق من آثارها يومًا بعد يوم، وفي أزمات ينسي بعضها بعضًا، وبذلك يكتسب النظام المستبد شرعية لطالما حلم بها، ويتحول الصراع من صراع صِفريّ على الوجود إلى مجرد تحفظات على آلية التنفيذ وترتيب الأولويات.

ثمة قضايا تطفو على السطح ولا تدري كيف طفت!! وما الذي أعاد ذكرها إلى الأذهان؟! أو ما الذي دفع وسائل الإعلام للاهتمام بها وإحيائها من جديد وإثارة الجدل المجتمعي حولها؟! إنها استراتيجية (الإغراق)، هذا المستبد الأكبر الذي يمسك خيوط اللعبة جالسٌ هناك في برج عالٍ، مشابه تمامًا لمكانه في مسرح الماريونت، يحرك خيطًا رئيسًا أوليًّا هو خيط الأزمات، هذا الخيط بدوره يحرك العاطسين الفرعيين ما بين سياسيين ودينيين، كل يدلي فيه بدلوه، ويتراقصون على خشبة المسرح لإلهاء الجماهير الباسمة المُصَفِّقة.

إن صوابية نظرية المؤامرة القائلة بأن المستبد يصطنع الأزمات الصغيرة ليلفت الانتباه عن الأزمات السياسية الماحقة؛ ليست محل شك، على الأقل عندي.

المفكر الأمريكي نعوم تشومسكي كان قد كتب دراسة موجزة عن وثيقة سرية يعود تاريخها إلى العام 1979م وعُثر عليها عن طريق الصدفة في العام 1986م، وكُتب على غلافها (سري للغاية.. الأسلحة الصامتة للحرب الهادئة)، وتتناول الوثيقة إرشادات للتحكم في البشر والسيطرة على المجتمعات. الوثيقة تحتوي على كثير من التفاصيل المفزعة التي تنم عن وجود مؤامرة أو تخطيط فعلي من قبل جهة ما للسيطرة النفسية والعقلية على الشعوب وتوجيهها، تمامًا كوثيقة (بروتوكولات حكماء صهيون) بغض النظر عن نسبتها إلى الحركة الصهيونية من عدمه.

وما يهمنا هنا الإشارة إلى أن من ضمن ما جاء في دراسة تشومسكي عن الوثيقة قوله: (عنصر أساسي لتحقيق الرقابة على المجتمع، عبر تحويل انتباه الرأي العام عن القضايا الهامة والتغيرات التي تقررها النخب السياسية والاقتصادية، مع إغراق النّاس بوابل متواصل من وسائل الترفيه، في مقابل شحّ المعلومات وندرتها. حافظوا على اهتمام الرأي العام بعيدًا عن المشاكل الاجتماعية الحقيقية، اجعلوه مفتونا بمسائل لا أهمية حقيقية لها. أبقوا الجمهور مشغولاً، مشغولاً، مشغولاً، لا وقت لديه للتفكير، وعليه العودة إلى المزرعة مع غيره من الحيوانات). أجهضوا المخطط؛ لا تعودوا للمزرعة، وكفوا عن العطس.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.