شعار قسم مدونات

الخروج البريطاني.. حقيقته وآثاره

blogs - بريطانيا الاتحاد الاوروبي
فجأة سمع العالم بنية بريطانيا في الخروج من الاتحاد الأوروبي وفهم البعض وقعه وآثاره جيداً ولم يفهمه كثيرون آخرون. بل حتى إن كثيرين لم يعرفوا أبداً أن بريطانيا كانت عضوا في الاتحاد الأوروبي من الأساس لعدم تبنيها اليورو عملة الاتحاد الموحدة. وبدا الأمر محيراً بالنسبة للبعض، فالطريقة المفاجئة والسريعة التي قرر فيها البريطانيون عبر استفتائهم الشعبي وبأغلبية بسيطة الخروج من الاتحاد كانت بالفعل مفاجئة لكثيرين، حيث لم يكن قراراً برلمانياً بالدرجة الأولى، بل كان بالأحرى قراراً شعبياً يحمل وراءه الكثير من المعاني والاستنتاجات. وليس أكثر دلالة على شدة وقع نتيجة الاستفتاء وفجائيته استقالة رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون مباشرة من منصبه بعد نتيجة الاستفتاء الشعبي الذي حسم مسألة خروج بريطانيا من الاتحاد.

قبل الدخول أكثر في خفايا القضية يتوجب علينا أن نعلم أن الاتحاد الأوروبي عبارة عن شراكة اقتصادية وسياسية بين ثمانية وعشرين دولة في أوروبا. يسعى هذا الاتحاد إلى تحويل الدول الأعضاء إلى أشبه ما يكون لدولة واحدة، حيث تزال الحدود قدر الإمكان لإتاحة المجال للحركة التجارية وانسياب التدفقات المالية والموارد البشرية والأيدي العاملة بين الدول الأعضاء. لكن بنود واتفاقيات الشراكة بين الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه ليست واحدة وتتضمن بعض المرونة في بعض البنود، ولهذا فإنه فقط تسعة عشر دولة اختارت أن تتبنى اليورو كعملة موحدة. كما أن أي دولة من الدول الأعضاء تملك خيار الخروج من الاتحاد الأوروبي عبر المادة 50 من قانون الاتحاد، ولكن هذا الخروج يجب أن يمر بآلية معينة ومحددة قد تستغرق مدة أقصاها سنتان.

حقيقة يجب أن يعلم الجميع أن انضمام بريطانيا للاتحاد الأوروبي في عام 1975م قد جلب للاقتصاد البريطاني العديد من المنافع وأنعش اقتصادها فأصبحت فيما بعد المركز المالي الرئيسي لأوروبا ومدخل الولايات المتحدة للسوق الأوروبي. ولقد عملت رئيسة حزب المحافظين ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارجريت ثاتشر جهدها لمناقشة بنود ارتباط بريطانيا بالاتحاد الأوروبي بهدف توظيفه ليجلب المنافع على الإقتصاد البريطاني أكثر من إستفادة الاتحاد من الموارد البريطانية.

لا يسهل الجزم بكل ثقة في أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو في مصلحتها الكبرى على المدى الطويل. في آخر المطاف إن انتماء بريطانيا للقارة الأوروبية شيء حتمي يجب أن تتقبله بحلوه ومره.

إحدى أهم نتائج هذه الجهود هو الإبقاء على العملة البريطانية وتقنين وضبط بعض القوانين الأخرى مثل الهجرة وغيرها. عبر ربع القرن الأخير للقرن العشرين، استفاد البريطانيون من حركة التبادل التجاري مع القارة الأوروبية وخصوصاً مع اختصاص البنوك الإنجليزية في التمويل والمعاملات التجارية. كما أن بريطانيا قد استفادت من قوة علاقاتها التجارية مع الشركات الأميركية لتكون بمثابة حلقة الوصل بين الولايات المتحدة وأوروبا.

كل هذا جلب العديد من المنافع وأنعش الاقتصاد البريطاني وخلق العديد من الوظائف. لكن ومع مرور السنين لقد اختلفت المعادلة وأصبح البريطانيون يرون ارتباطهم بالاتحاد الأوروبي بمنظار مختلف. لقد ساهمت العديد من القضايا في تغيير نظرة البريطانيين تجاه الاتحاد الأوروبي، حيث أدى هذا الارتباط إلى التأثير على العديد من القوانين البريطانية التي يكترث لها المواطنون البريطانيون والتي تمس رفاهيتهم. إن البريطانيين لا يريدون أن يروا هذه القوانين ترجح كفتها لصالح أي أحد آخر غيرهم وخصوصاً المهاجرين الذين تدفقوا إلى بريطانيا مستغلين مرونة قوانين العمل المرتبطة بالاتحاد الأوروبي. أمثلة هذه القضايا حقوق العمال والموظفين ومنافع التقاعد الاجتماعية واتفاقيات التجارة والاستقلالية الضريبية والتأثيرات الدبلوماسية الخارجية على القوانين المحلية. لكن أهم هذه القضايا والتي كانت الدافع الأكبر لتصويت البريطانيين للخروج من الاتحاد الأوروبي هو قضية الهجرة، حيث وصل قلق البريطانيين ذروته من تدفق المهاجرين إلى بلدهم وخصوصاً من دول أوروبا الشرقية مثل رومانيا وبولندا.

لكن بتجاوز هذا القلق الشعبي الذي أدى لاستفتاء الخروج هذا، هل فعلاً ستكون بريطانيا أفضل حالاً بقرار الخروج من الاتحاد الأوروبي؟ يجزم بعض المحللين أن قرار الخروج سيفيد الاقتصاد البريطانيا، حيث ستتخلص بريطانيا من التزاماتها المالية السنوية تجاه ميزانية الاتحاد الأوروبي والتي تقدر بتسعة مليارات جنيه أسترليني بعد خصم المنح والمساعدات الأوروبية التي تحصل عليها بريطانيا في المقابل.

هذه الالتزامات المالية السنوية تثقل ميزانية الخزانة البريطانية بل تثقل أكثر جيوب دافعي الضرائب البريطانيين والذين هم فعلاً المساهمون الحقيقيون لهذه الميزانية. كما يجادل المحللون أن قرار الخروج قد ساهم في إنخفاض قيمة الجنيه الأسترليني والذي ساعد في انتعاش الصادرات البريطانية. والأهم من ذلك كله أنه مكن الحكومة البريطانية أخيراً من فرض قوانين أكثر صرامة على تدفق العمال والمهاجرين إلى بريطانيا وهو أكثر ما يهم الشعب البريطاني لأنه هو أكثر عامل دفعهم للتصويت لصالح الخروج.

لكن بالنظر إلى الفوائد السابقة التي سيحصل عليها البريطانيون بخروجهم من الاتحاد الأوروبي، هل هي فعلاً فوائد ستعود عليهم بالنفع على المدى البعيد؟ حقيقة، تخلّص بريطانيا من التزامات سنوية مع الاتحاد الأوروبي تقدر بتسعة مليارات جنيه أسترليني هو شيء ذو أهمية كبيرة، ولكنها أيضاً ستخسر مليارات من التبادل التجاري والمنافع المتبادلة مع أسواق الاتحاد الأوروبي.

بريطانيا في الوقت الحالي منهمكة في مناقشة طويلة لعملية خروجها من الاتحاد والذي أظن أنه غالباً سيؤدي لانتخابات مبكرة ستجهضه وتسقط معه رئاسة المحافظين لمجلس العموم البريطاني.

أيضاً إن دور البنوك البريطانية كمركز مالي رئيسي سيتأثر فستخسر هي الأخرى جزءاً كبيراً من أرباحها يصعب تقديره بدقة في الوقت الحالي. كما أن الكثير من الشركات الأميركية وغيرها التي كانت تتخذ بريطانيا مدخلاً إلى السوق الأوروبي ستتأثر عملياتها وربما ستضطر إلى نقل مقرات عملياتها الأوروبية داخل أوروبا لكي لا تتأثر مبيعاتهم من الخروج البريطاني. كما ومع أن تقييد وفود الأيدي العاملة وحركة الهجرة إلى بريطانيا سيرضي الكثير من البريطانيين، ولكنه حتماً سيكون له أثر كبير على حصول الشركات البريطانية على حاجتهم من المواهب والأيدي العاملة.

حقيقية لا يسهل الجزم بكل ثقة في أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو في مصلحتها الكبرى على المدى الطويل. في آخر المطاف إن انتماء بريطانيا للقارة الأوروبية شيء حتمي يجب أن تتقبله بحلوه ومره.

إن استفتاء الخروج كان شعبياً بالدرجة الأولى ناتج من فوبيا البريطانيين من تزايد الهجرة ولا يعكس بالضرورة صوت العقل والمنطق. أعتقد أن بريطانيا ستكون أفضل حالاً بتوطيد علاقتها التجارية مع القارة الأوروبية بأسواقها ومواردها سواء البشرية منها أو الطبيعية بدلاً من التعويل على الأسواق الأميركية أو الآسيوية البعيدة نسبياً. وهذا يتضمن القبول بكل العواقب حلوها ومرها. وكما فعلت ثاتشر سابقاً، أعتقد أنه يجب على السياسيين البريطانيين أن يبذلوا جهودهم لمناقشة بنود انتمائهم للاتحاد الأوروبي لتعظيم منافعهم بدلاً من بذل الجهود للخروج منه.

إن بريطانيا في الوقت الحالي منهمكة في مناقشة طويلة لعملية خروجها من الاتحاد والذي أظن أنه غالباً سيؤدي لانتخابات مبكرة ستجهضه وتسقط معه رئاسة المحافظين لمجلس العموم البريطاني. في نهاية المطاف من الأرجح أن تبقى بريطانيا في الاتحاد ولكن تحت بنود تقيد وفود الأيدي العاملة والهجرة بشكل أكبر. أقول هذا لأن الشعب البريطاني في رأيي ما زال منقسماً ولا يعرف حتماً هل سيكون حاله فعلاً أفضل بالبقاء في الاتحاد أو الخروج منه!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.