شعار قسم مدونات

الثقافة الرقمية.. بأي ثمن؟

مدونات، هاتف

مند متى كانت آخر مرة تحضر فيها حفلا فنيا أو تجمعا عائليا أو علميا أو أدبيا أو حتى لقاءا رياضيا دون أن تحمل معك هاتفك الذكي؟ أو بمعنى آخر دون أن تحرص على إشراك شبكة أصدقائك الافتراضيين في تفاصيل الحدث أو المشهد بشكل آني وفوري؟

أتصور أنه قلما يحدث ذلك بشكل اختياري أو طوعي لأن وسائل الاتصال وثقافة التواصل الاجتماعي طغت على سلوكياتنا وتفاصيل حياتنا بشكل مثير، فبنظرة خاطفة على أي جمع من الناس بغض النظر عن المناسبة أكانت حفلا أو مأثما ستلاحظ كم الهواتف التي ترصد تفاصيل الحدث والفتور الكبير في التفاعل مع ما يجري في ظل انشغال معظمهم بالتصوير أو النشر أو التعليق على صفحاتهم الشخصية. فنحن نعيش في عالم لم يكن بالإمكان حتى تخيله قبل عقود قليلة، إذ لم يسبق لأي اختراع علمي أو تقني بغض النظر عن قيمته أو أهميته أن غير جدريا أنماط حياتنا وأفكارنا وهوياتنا بقدر ما تفعل وسائل الاتصال اليوم.

فخلال اندفاعك في دوامة الشبكات الاجتماعية بإمكانك أن تكون متحركا أو جالسا في مكان ما في العالم الحقيقي ومنجذبا في الوقت نفسه إلى زمان ومكان بديلين، وربما فاعلا ومؤثرا هناك، أمر أصبح مثيرا للقلق خصوصا بالنسبة للمهتمين بفاعلية ومستقبل الأجيال الرقمية أو المهتمين بسؤال الهوية والثقافة والأخلاق على السواء. لا أحد بإمكانه إنكار الدور الكبير للتكنولوجيا عموما ولوسائل الاتصال خصوصا في تيسير حياتنا ومساعدتنا على التواصل مع أناس من ثقافات مختلفة وبلدان بعيدة جدا وبشكل مباشر، إضافة الى دورها الكبير في انتشار المعلومة وتفاصيل الاحداث أينما ووقتما حدثت، وتلعب كذلك دورا محوريا وأساسيا في التسويق والعمل بالنسبة لملايين الناس، لكن بأي ثمن؟؟

ينشغل أغلب الناس بتوثيق اللحظة وأخد الصور ونشرها أو بتحيين أماكن تواجدهم ثم بقراءة التعليقات والرد عليها وبالتالي تكريس وقت أكبر للعالم الخارجي، مما يساهم في ضعف الهوية الداخلية ويجعل الحضور في الفضاء الحقيقي شكليا فقط

عرف اختراع الكتابة اعتراضا قويا من طرف المنتفعين والمستغلين لحصرية المعرفة، وعرف اختراع التلفاز كذلك معارضة مماثلة من طرف الكثيرين بدعوى أنها تضر بالهوية الجماعية وتجعل أفراد الأسرة الواحدة مشدودين طوعيا لساعات طوال أمام الشاشات، كما كان لكل اختراع معارضون ومناهضون، وإن لم تفلح دفوعاتهم في وقف الشغف والتكيف السريع والغريب للبشر مع كل تطور واختراع جديد .
تكشف نتائج الدراسات عن أرقام مثيرة للقلق، ففي المعدل يقضي الشخص ما يفوق الثمان ساعات يوميا في استعمال الانترنيت، تحتل مواقع التواصل الاجتماعي منها النصيب الأكبر. وذلك على حساب الدراسة ومساحات اللعب بالنسبة للأطفال والناشئين كما يستهلك كذلك وقتا ثمينا من مواعيد التواصل العائلي المباشر والعمل وممارسة الهوايات الحركية والجماعية بالنسبة للبالغين.

يتكلم المختصون عن نتائج سلبية كبيرة على مستوى السلوك والتعايش، منها ضعف ملحوظ في مستويات الذكاء الاجتماعي وخصوصا في ما يتعلق بقراءة تعبيرات الوجه وتوقع ردود الفعل، يضاف إلى ذلك حصول ضعف كبير في مستويات التعاطف كون صداقات الشاشة بعيدة وشكلية مقارنة مع الصداقات الحقيقة الواقعية التي نتفاعل خلالها بتعبيراتنا وتغيرات امزجتنا وردود أفعالنا المباشرة، إضافة إلى كونها تساهم في ترسيخ النرجسية التباهي والغرور بحكم أن الشخص المتعلق بمواقع التواصل الاجتماعي يختار بعناية ما ينشره من صور ومقاطع وتعليقات بغرض إثارة وإبهار أصدقائه أو بالأحرى جمهوره، فمن السهل عليه أن يختار من يريد أن يكون وليس كما هو في الواقع ويتحرر من قيود المجتمع ومن السلطة والأعراف ويتجنب كذلك الحرج والتردد والتلعثم في اختيار الكلمات والردود.

ففي الوقت الذي يلزمنا الاستمتاع بالعروض أو بالتجمع العائلي أو بالوجبات التي نتناولها أو ربما بالمناظر حولنا، ينشغل أغلب الناس بتوثيق اللحظة وأخد الصور ونشرها أو بتحيين أماكن تواجدهم ثم بقراءة التعليقات والرد عليها وبالتالي تكريس وقت أكبر للعالم الخارجي، مما يساهم في ضعف الهوية الداخلية ويجعل الحضور في الفضاء الحقيقي شكليا فقط.

أما الخصوصية التي كانت باستمرار أمرا مقدسا فأصبحت اليوم ضعيفة جدا أو منعدمة، فالدراسات تؤكد وتشير الى أرقام كبيرة لمن لا يحتفظون بخصوصياتهم أثناء تواصلهم مع الجمهور الافتراضي ،كما يتوقع الخبراء أن جيل الألفية 2020 لن يتمكن من الاحتفاظ بالمعلومات لكونهم يقضون معظم أوقاتهم في تبادل الرسائل الفورية ومشاهدة مقاطع الفيديو المثيرة بشكل مستمر مع امكانية الاختيار بين عدد لا متناهي من العروض.

المدافعون على مواقع التواصل الاجتماعي يراهنون باستمرار على بعض الدراسات التي تشير إلى دورها في تشجيع الناس وخصوصا الانطوائيين منهم على التواصل والتكلم والتعبير عن مشاعرهم، لكن تطميناتهم وتنبؤاتهم الايجابية بخصوص المستقبل كانت باستمرار أقرب إلى الأمل والتمني أكثر منه إلى اليقين، وخصوصا لما يتطرقون إلى الحديث عن عادات أبنائهم وتعاطيهم مع وسائل الاتصال.

خبراء الأعصاب بدورهم ينذرون بنتائج مزعجة حول نتائج ثقافة الشاشة، ويشيرون إلى احتمال حدوث تغيرات خطيرة على بنية ووظائف العقل البشري، وبالتالي وجب التحرك سريعا وأحداث مؤسسات كبيرة لدراسة النتائج واقتراح الحلول على الهيئات والحكومات من أجل وضع اليات للتعامل بشكل استباقي وعلمي مع كل هده المخاوف وعدم انتظار المزيد من النتائج على غرار التعامل مع مشكلة تغير المناخ والادمان وتغير العادات الغذائية كي لا تتغير عقولنا بشكل أكثر سوءا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.