كلا.. إنها مفردات وبعض أبيات انتقاها زعماء، ومن يقف على هرم السلطة معلنين وبصراحة ما الذي سيقدم لهذا الشعب وما سيبتلعه، وسيكون للمحرمات نصيب لا بأس به في عملية اختيار النشيد الوطني. أما الحرية والعدالة فهي منبوذة ومحرمة ليست جديرة بالذكر والاحترام؛ بل تصنف بخانة الخيانة والتآمر، لا ذكر لما يصون ويحفظ كرامة المواطن والمواطنة، أو يعلي شأن هذا المسكين الكادح؛ أوليس هذا المسكين الذي يبني أوطانه، أوليس هو من يحمي وطنه! ألا يملك هذا المواطن الكادح المسحوق أن يحصل على ذكر لما يردده تلاميذ أوطنانا صباحا مساء؛ ألم يحن الوقت ليردد أبناءنا نشيدا صادقا يرونه بأم عينهم، بل ويلامسونه في حياتهم اليومية.
هل أخطأ الألمان عند ذكرهم المرأة الألمانية والحرية والعدالة بالنشيد الوطني وتغنوا بها! أم أصاب الفرنسيين الصمم، عندما تحدثوا عن العدالة والحرية، ورددوها في كل إنشاد وبشكل متكرر، ليذكرهم بحقوقهم التي كتبت بماء من ذهب؛ فيما تغنى وردد الطالب السوري على مدار عقود بنشيد حماة الديار وكأن سوريا الوطن اختزل بالجيش أو ما يسمى "حماة الديار".
مسكينة لغتنا الجميلة العظيمة، فهي تظهر بأسوأ حال وتلبس لباس التضحيات في سبيل الأوطان ولباس التهليل والتقديس لملوك وزعماء لا يستحقونها، نعم لقد أصيبت لغتنا الولود بالعقم بفعل فاعل. |
كيف لهذا المواطن أن يساهم في بناء وطن بعد ان اصبح الجيش وقواته المسلحة المثل الأعلى في عيون أطفاله، أين حقوق هذا المواطن المردد لهذه الكلمات؟ هل كتب عليه أن يظهر مواهبه الإنشادية في سبيل غيره؟ ولك أن تتصور نوع المواطنة وجودتها حينما تنكشف أمام الطفل السوري حقيقة جيشه وهزائمه المتكررة اللانهائية وينكشف زيف ما لقنوه من أناشيد وكلمات بعيدة كل البعد عن الواقع.
وكي نرسم صورة واضحة، صريحة وصادقة لكافة أوطاننا العربية، لا بد لنا أن نشير لكافة أقطارنا العربية، فها هي الممالك العربية تنشد صباحا مساء، تمجيدا وتحميدا بملك الوطن؛ كيف ولا؟ فقد اختزل الوطن في شخص الملك، ومناقبه الكمالية اللامتناهية؛ لعل هذه الممالك اتخذت من النشيد الوطني البريطاني أنموذجا يحتذى به، فيما تناست كافة المناقب البريطانية من حريات وعدالة وفصل للسلطات.
هذا إن دل فإنما يدل ويثبت أن النشيد الوطني إن هو إلا عملية تثقيفية للمجتمعات العربية، القائم على الانتقائية وتحييد حقوق المواطن بل ومنع ذكرها بالقصائد والأشعار المنقوصة والمحرفة أحيانا، في سبيل خدمة مشاريع سلطوية فردية لا تقيم أي وزن للمواطن والمواطنة وحقوقهم البديهية؛ بل لا تحتسبهم في كافة المعادلات والميادين باستشناء فصل التضحيات وتقديم الشهداء وخدمة الأوطان.
فهلا تمعنتم في النشيد الوطني الفلسطيني؛ الذي تغنى بالفدائية والفدائيين؛ بل وأحاط الفدائيين بهالة تقديس في سبيل تحرير الأوطان متناسية حقوق الأفراد والمواطنين؛ فحركة التحرير الوطنية "فتح" هي تلك التي اختارت وصادقت على هذا النشيد عندما كانت حركة تحرير مقاومة.
في الواقع أصبح الفداء والفدائيون من الماضي، ولو خرج أحدهم من مقبرة الأرقام الإسرائيلية، فسيتهم بالعمالة وتعطيل المشروع الوطني، وطبعا سيتهم بمحاولة تدمير الإنجازات التي تحققت بفضل نشيد لم يعد منه سوى بعض الألحان التي يطرب لها بعض الراقصين على موائد الأوطان.
مسكينة لغتنا الجميلة العظيمة، فهي تظهر بأسوأ حال وتلبس لباس التضحيات في سبيل الأوطان ولباس التهليل والتقديس لملوك وزعماء لا يستحقونها، نعم لقد أصيبت لغتنا الولود بالعقم بفعل فاعل، ولم تقدم لناطقيها سوى الكلمات المتبوعة بالألم والفراق، يا لحزن هذه العظيمة، لم يقطف من ثمارها سوى ما يجلب الشقاء والمآسي؛ فيما قدمت اللغات الأخرى الأقل شأنا مزيجا من الحريات والعدالة ومزيدا من الحقوق والكفالة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.