شعار قسم مدونات

إشكالية المثقف والمجتمع

مدونات - القراءة

الثقافة مجموعة من المعارف والمعاني تتفق عليها وتفهمها مجموعة من الناس، تربط طبقة المثقفين تلك المعارف والمعاني من خلال نظم مشتركة تسيّر المجتمع. يقوم المثقفون بالبحث عن المعارف نفسها وإنتاجها والتوصل إلى الحقيقة ووضعها في سياق مباشر مع مصالح المجتمع من أجل تحريره من الجهل، وتوجيهه باتجاه مصالحه الفعّالة الحقيقية والتي ترفع مستوى الفرد في حياة أفضل. ويكتمل دور المثقف بالتزامه بقضايا مجتمعة حتى النهاية، ولا ينتهي المثقف بكونه مجرد بنك معلومات يتفاخر بما يملك، وبالتالي يجب أن يدخل المثقف في خطاب مباشر مع المجتمع، لكن الدخول في خطاب مباشر مع المجتمع تواجهه بعض المشاكل.

نحتاج خطاباً ثقافياً مباشراً لترسيخ مفاهيم فكرية واجتماعية جديدة تواكب العالم، لكن هناك فجوة بين المثقف وأفراد المجتمع، وذلك يرجع إلى سوء الإرسال والتلقي الذي سببه طرفا المخاطبة فنجد أمامنا سببين:

 

أولهما: أزمة المثقف، وتتمثل في العزلة التي يعيشها بعيداً عن مجتمعه واستخدامه لمصطلحات لا يفهمها المجتمع، لا تجعل خطابه مؤثراً ولا يشكل أي تغيير، والتطور السريع في المعلومات والكم المعرفي الهائل الذي جعل المثقف يحاول جاهداً مستغلاً وقته لمواكبة هذا التطور الفكري مما جعله ينفصل عن واقعه ويكون أقل ارتباطاً بمشاكل مجتمعه، واجتماع منابر النخب المثقفة في أماكن بعيدة عن المجتمع بغرض عرض معلوماتهم بعيداً عن محاولة تطبيقها أو حتى عرضها على المجتمع، وأكثر العناصر تأثيراً هو استغلال السلطة لبعض المثقفين مما جعل أفراد المجتمع تفقد الثقة في هذه الفئة بشكل مطلق.

السبب الآخر: وهو أزمة المجتمع، المجتمع نفسه لا يدرك واقعه الحقيقي، فأصبح فاقداً لهويته وذاته وغير مدرك لحجمه الحقيقي، وذلك يحدث بسبب الصراعات الداخلية على مستويات عدة، فعلى المستوى السيكولوجي أو النفسي نجد مثالاً واضحاً في حاجة المجتمع لبساطة ويقين المعرفة بينما المثقفون مشككون، وبالتالي يتجه المجتمع لفئة من المثقفين الزائفين والذين يقدمون معرفة زائفة يعتمد عليها المجتمع وتتجه به نحو الهاوية.

 

يأتي دور عناصر المجتمع من الفئة المثقفة والفاعلة بأن تبدأ عملها بشكل أعمق من مجرد خطابات وكتابات بجعل أفراد المجتمع تعي أولاً وجودها من خلال معرفة الذات وتحديد كينونتها وذلك بتحليل الصراعات التي يعاني منها، وإيجاد حلول فعلية لها

وعلى المستوى الاقتصادي والسياسي نجد أن المجتمع ليس لديه رؤية واضحة أو حتى حقيقية عن وضعه السياسي والاقتصادي الحقيقي، لأن الفرد في المجتمع يرى أن مصالحه المباشرة هي محور المجتمع، بينما مصالح هذا الفرد تتعارض مع فرد آخر مما يجعل محصلة مجهودهما معاً صفرية العائد، وهذا يحدث كنتيجة مباشرة لحاجة الفرد لتأمين احتياجاته الغريزية، ولاعتماده على مثقفين زائفين غير مدركين للحقيقة، وهذا كله كنتيجة لحاجة الفرد النفسية لليقين والاستقرار المعرفي.

 

فيقوم السياسيون باستغلال تلك الحاجة وسدها للمجتمع من خلال دعم المثقفين الزائفين وإنشاء مؤسسات ووظائف حكومية معتمدة، هدفها فقط أنْ تضخ اليقين الزائف والذي يصب في مصالح شخصيات وأحزاب سياسية معينة، على حساب مصالح المجتمع وأفراده أنفسهم الذين يعتقدون أن هذه المؤسسات تم إنشاؤها بالأساس لحمايتهم وحماية هويتهم، وتأمين احتياجاتهم، كل هذا خلق مشاكل سوسيولوجية أو اجتماعية عميقة، جعلت المجتمع مجرد درويش صوفي، بعيداً كل البعد عن الواقع وعن أي محاولة لإيقاظه، وبالتالي يكره ويقاوم بل أحياناً يحارب أي خطاب ثقافي حقيقي موجه له حتى لو كان يعرف أن الخطاب صادق فهو بالنسبة له خطاب غير واقعي ولا يقدم حلولاً حقيقية ويرى الخطاب الحقيقي مجرد مجهود كبير مستنزف ويطلب منه الكثير، لأن المؤسسات تقدم له الحلول الجاهزة الوهمية السهلة دون أي مجهود.

وهنا يأتي دور عناصر المجتمع من الفئة المثقفة والفاعلة بأن تبدأ عملها بشكل أعمق من مجرد خطابات وكتابات بجعل أفراد المجتمع تعي أولاً وجودها من خلال معرفة الذات وتحديد كينونتها وذلك بتحليل الصراعات التي يعاني منها، وإيجاد حلول فعلية لها، وكشف المثقفين الزائفين باستمرار والصمود في وجههم، حتى يتحرر المجتمع من قيوده الداخلية ليتمكن من مواجهة قيوده الخارجية بعقل جديد ووعي ذاتي ساهم في بناء عناصره المثقف بشكل مباشر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.