شعار قسم مدونات

آلام بيضاء

blogs - عجوز وشيب
ماذا سيحدث إن علمت أن تلك الكلمات التي تخطُّها هي آخر كلمات دفاترك؟! ما أدراك أيها الملهوف أن قبلة لحبيبتك لن تتلاشى يوماً كما يتلاشى الضوء قبل العتمة؟! تلك الروايات والأفكار وشوارد روحك وأطيافك قد ترقد بجانبك يوماً دون حراك.. كيف علمت أن لعبة أو دمية قد ابتعتها لصبي أو صبية ليلة عيد ستظل ساكنة هادئة متماسكة؟! إلا من بعض القطن الذي شق طريقه عن جانبيها.. أغمض عينيه.. ما زال يعاني من آلام يترنَّح على زيارتها ليل نهار.. نفس الوسادة .. ونفس الأغطية.. ونفس الأزهار الكئيبة الأرجوانية.. وكوب الماء الذي تتعاهده أمه بملئه قد أصبح فارغاً إلا من حزنها.. وفساتين حبيبته الحمراء معلقةً أمامه مصلوبة لأجل خطاياها.. شعر وكأن الآلام لا تصطاد إلا الطيور الصَّداحة.. أما تلك التي لا تزيد على أن تثقل كاهل الأغصان أو تبعثر ريشها فوق حافتي النوافذ فلا شأن له بها..

لم يخبو النور في عينيه.. ما زال وسيماً كما عهدته إلا من نحول تربص بخديَّه.. أحبَّ كل شيء.. حتى قطته البيضاء التي شق عليه بيعها يوم حذَّره الطبيب من تواجدها في المنزل.. تلك المخلوقات يا سيدي أكثر وفاءً من بعض البشر! كانت الآلام بمثابة الظل الذي عرف معه المتصحِّر قيمة الشمس.. تفتَّش الآلام عادة عن الأنقياء فتسكنهم.. كما تفتش الحروب عن البراعم فتجتثها.

عندما أحسَّ بالألم يجتثه من مرقده.. شعر بأن ساعة الزمن قد توقفت.. تيبس الهواء على الغصون.. لم تعد أشجار الحديقة تلتطم بجدران البيت.. لم تعد العصافير تزقزق وترقص على سور شرفته صباحاً.. تلبَّدت السماء وتبلَّدت.. وغوَّر الماء في عينيه كما غوَّر في مزارع أبيه.. انتظر ساعة الرحمة الإلهية التي تنشر الأبيض حوله.. ملاك أبيض.. خيوط من النور الأبيض.. وجوه بيض.. وكفن أبيض.. علمت كم حفظت السماء للمنكوبين والمتوجعين جناناً ونعيماً.

أحبوا زواياكم التي بذركم الله في تربتها.. أشعلوا شموعكم وعلقوا أحلامكم ولو على جدران الطين.. فالكره لن يغير واقعاً ولن يحقق أحلاماً.

ليس بعد.. وليس الآن.. امنحني إلهي أنفاسي التي وعدتني أن تحفظها لي حتى يكتمل نصابي من تلك الحياة.. حتى أشب عوداً وأشيب غصوناً ترى ملتقى البحر والسماء.. بعدُ لم أحقق أحلامي.. لم أنشر أول رواياتي.. لم أقبل حبيبتي بعد.. لم تمطر سماؤنا بعد.. لم نصعد تلالنا بعد.. ولم نهوي سوية بعد. لم أودع أمي.. لم أنهي كأس عصير الليمون الذي مل أخوتي منه.. لم أحمل فنجان قهوتي بعد شربها إلى حيث الأواني وخبأته كسلاً خلف مشعل الضوء.. لن تغضب أمي؟! أمي.. رحماتٌ زرعها الربُّ فلسفة حب بين الخلائق. لم أظفر بتحية أبي وهو يغادر باب الغرفة.. ابتلعت الآلام صوتي وأنا أراقب شفتيه المرتعدتين وقد أنصت إلى الطبيب.. ذلك الشيب الأبيض الذي تفجر في لحيته بمثابة حليب أمي.. لا يمكن أن يُفطم الولد من شيب أبيه!

جرب أن تجعل من الرحيل ضيفاً.. أن تخشى الفراق يوماً.. أن تعلق على جدرانك تعاويذ وآيات وصلبانا مقلوبة.. أن ترسم خيالات وشخوصا صماء تنتظر وداعك.. أن تخشى الأبيض يوماً.. الأبيض وجهك حين تجف فيه العروق.. الأبيض في جلابيب الموت.. الأبيض في بزة الطبيب.. الأبيض في لحائفك وفرشك وجدرانك.. أنا وأنت وناس الله بشر ليس يلهمهم سوى الخوف.. لا نعرف قيمة ما فقدناه إلا حينما نخاف فقده.. أو نفقده!

أحبوا كل شيء .. أحبوا الناس بجميع طوائفهم.. أحبوا أمهاتكم وآباءكم.. أحبوا زوجاتكم.. أولادكم.. أشقاء دمائكم.. أحبوا أرواحكم.. ذواتكم.. أحبوا البذور التي بذرتموها.. والثمار التي ستقطفونها يوم الربيع.. أحبوا أنفسكم.. كيفما كنتم.. وأينما حللتم.. أحبوا زواياكم التي بذركم الله في تربتها.. أشعلوا شموعكم وعلقوا أحلامكم ولو على جدران الطين.. فالكره لن يغير واقعاً ولن يحقق أحلاماً.

غادر صديقي.. وابيضت عيناه.. والتحف الأبيض.. ودَّعته شخوص سوداء في صبيحة ممطرة.. دعا الناس له بالمغفرة.. ركبت سياراتي.. لعنت كل أبيض في حياتي.. الكفن.. وبزة الطبيب.. ووجه صديقي الشاحب. أحسست بدمعة تجر ذيولها المثقلة فوق وجنتي.. ولم أشعر سوى بمنديلي الأبيض يمحو أثرها!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.