شعار قسم مدونات

محاولة إعادة ضبط الموازين

blogs - قرآن
يعيب كثيرون على القرآن _زعموا_ أنه لم يتحدث في شؤون تنظيم الدولة إلا بشكل إشاري (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ)، ويعيبون كذلك على القرآن سكوته عن منطلقات وشكل الدولة التي قد تمثل الإسلام. والحقيقة أن تصور الشيء فرع من الحكم عليه كما يعبر علماء أصول الفقه، ولذلك فإن الإغفال عن تصور الإسلام بخصوص الدولة يؤدي بالضرورة إلى إطلاق هذا الحكم الجزافي، علاوة على أن عدم العلم بأدوات استنباط الأحكام يفضي إلى هذا الحكم؛ ولذلك فالتصور القويم جزء من الحكم القويم وسبيل إلى الفعل القويم وسبيل إلى الأمة القويمة الشاهدة (الشاهدة بمعنى الحاضرة وسط الأمم).
إن عدم الأخذ بمسلمة إعجازية القرآن جعل أصحاب هذه الدعوى إما يغفلون أو يتغافلون عن حقيقة مهمة هي أن القرآن لما أعرض عن التفصيل في أمور السياسة العامة والدولة، فإنه في المقابل وبشكل معجز – لو تدبروا- قام بالتفصيل في أمر آخر، يمكن أن يعد مقابلا للدولة؛ ذلك أننا إذا اعتبرنا الدولة بنية فوقية (أستعير الاصطلاح من الحقل الاشتراكي) فإنه فصّل في البنية التحتية وهي الأسرة، فكان المنطوق به هو تشريع الأسرة والمسكوت عنه هو الدولة (في هذه المقابلة) ليختصّ به الإجماع.

لا بد من التأكيد أن أصول الفقه بما هي أداة اشتغال علمية، هي السبيل الوحيد إلى التصوّر السليم الذي نبحث عنه من خلال هذه السطور، ونحن هنا لا ندخل في نقاش الثراث في مقابل الحداثة، بقدر ما نستنطق النص القرآني بأدوات علمية أثبتت نجاعتها قديما وحديثا، دون استصنام للأحكام السابقة أو حياد عن القواعد (يطول النقاش في هذا الباب على أن نتطرّق له لاحقا).

إذا اتّضح أن الإسلام عقيدة وشريعة أثبت للأسرة مركزيتها وأهميتها وعمادها، فإنه خصص هذه الأسرة بمحور وعماد آخر هي المرأة، وكل بناء لا يستوي عماده فهو إلى الانهيار.

والقاعدة التشريعية في علم أصول الفقه أن إثبات مسألة في القرآن باعتباره مصدر التشريع الأول دون السنة والإجماع والاجتهاد، يعني محوريته في منطق التشريع الإسلامي، ومركزيته التي لا محيد عنها في أصول الدين عقديا وتشريعيا؛ ذلك أن مفهوم الأسرة في منطق الإسلام المتضمَّن في الوحي قرآنا وسنة، وقرآنا على وجه الخصوص، اقتُرِن فيه التشريع الأسري بالأصل العقدي؛ وتدبر قول الله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا). ثم تدبّر أن التقوى بما هي صفة عقدية اقترن بالخلق البدئي (الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) وتكرّر التأكيد العقدي على مآل ذلك الخلق الأول وهو الأرحام إحالة على مفهوم الأسرة.

والسؤال الآن، أين العلة وأين الحكمة وعموما أين الإعجاز هنا! إنَّ الأسرة إن هي قامت على المبادئ الربانية تصنع السياسة (بإطلاق) وإلّا صنعتها السياسة. وها هي قصة الأندلس شاخصة؛ ألم يظل الموريسكيون يخفون دينهم رغم محاكم التفتيش في دولة تخالفهم الدين. هل تنصيب دولة "إسلامية" يعني بالضرورة قيام الدين في المجتمع بكل تجلياته العمرانية؛ أو بلغة رياضية منطقية هل الانطلاق من الدولة يعني إقامة الدين ( أخلاقيا بالدرجة الأولى) أم أن الانطلاق من الأسرة هو السبيل إلى ذلك؟

والمتتبع للسيرة النبوية، بما هي التطبيق العملي للقرآن، يرى أن الإسلام لم يسع للدولة، وإنّما سعى إلى تثبيت الدين عمرانيا (بالمفهوم الخلدوني) في النسيج المجتمعي بدءا بالأسرة، وتدبّر مجددا أول ما نزل (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ). وحسبك أن تدرك أن أمرهم شورى بينهم الواردة في القرآن إحالة إلى اختصاص الإجماع بهذا الأمر مع استحضار أنه في المرتبة الثالثة تشريعيا.

فإذا اتّضح أن الإسلام عقيدة وشريعة أثبت للأسرة مركزيتها وأهميتها وعمادها، فإنه خصص هذه الأسرة بمحور وعماد آخر هي المرأة، وكل بناء لا يستوي عماده فهو إلى الانهيار كما عبّر علال الفاسي.

الإسلام تحدث فقط عن الحور العين بالنسبة للرجال فقط، ولم يتحدث عن جانب المتعة للمرأة. استحياء من المرأة. فإذا اتّضح مقال شرط الحياء فشرط المرأة فشرط الأسرة، يتضّح أن أي إخلال بالأول يستدعي انهيار الثاني.

هنالك من يعتبر أن الإسلام ظلم المرأة، ومن بين ما ظُلِمت ـ زعموا ـ اشتراط حضور الولي بالنسبة للمرأة على اعتبار أنه، على حد زعمهم، انتقاص من أهليتها وانتقاص من إمكاناتها. (لا نتحدث الآن عن الجانب الفقهي وعن حكم ميثاق الزواج وصحته بحضور أو غياب الولي، حسب المذاهب الفقهية كالحنابلة أو المالكية إيجازا أو منعا على التوالي، وإنما مناط الحديث شيء آخر كما سيتّضح المقال).
حسنٌ. ماذا عن سماح الإسلام للمرأة بالبيع والشراء وإبرام العقود التجارية دون ولي، علما أنه لا يُسمح للرجل بالتدخل في شؤون زوجته البتة، علما أن التجارة تقوم على المشاحّة والأخذ والرد، فتنتفي هنا دعوى أن الإسلام انتقص من المرأة أهليتها.

الجواب في الجانب الأخلاقي من الدين، ذلك أن اشتراط حضور الولي، ليس حضور أهلية وإنما هو حضور مكارمة، على اعتبار أن الإسلام دين الحياء، وما كان ليدع المرأة في موقف قد يخرم المروءة والفطرة والحياء وإن بشكل خفي.

وانظر رعاك الله أن القرآن كيف عبر بشكل حييّ عن ولادة عيسى عليه السلام: (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا). والشاهد هنا لدينا: (نَادَاهَا مِن تَحْتِهَا). وانظر أن الإسلام تحدث فقط عن الحور العين بالنسبة للرجال فقط، ولم يتحدث عن جانب المتعة للمرأة. استحياء من المرأة. فإذا اتّضح مقال شرط الحياء فشرط المرأة فشرط الأسرة، يتضّح أن أي إخلال بالأول يستدعي انهيار الثاني كما يتضّح أنّ آخر المعاقل معقل الأسرة، وأن أول البناء بناء الأسرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.