بغض النظر عن الكم الهائل من النصوص والمخطوطات، الأفلام والتسجيلات، الأشعار والمؤلفات التي دوّنتها الأجيال من أجل فلسطين والقدس، سنحاول في هذا المقام الحوار بشكل مباشر مع الأزمة الأخلاقية-الإنسانية التي تعصف بالإنسان الفلسطيني على أرضه، محاولين الوقوف على ما فقده ويفقده كل يوم، بدأ بروحه ووصولا إلى ممتلكاته المعنوية والديموغرافية وحتى الجغرافية والمادية؛ ولعلّ الكلمة التي تجمع كل ما تقدّم هي: النكبة، فما معنى النكبة على أرض فلسطين؟ وما هي تداعياتها؟ وكيف ينظر العالم إلى الناس المنكوبين على الأراضي المقدسية؟ وهل هناك نكبة؟

1. النكبة كمفهوم متعالي
لتحديد معاني النكبة على أرض فلسطين يكون لزاما علينا أن نحاول فهم النكبة بكافة جوانبها، بحيث هناك النكبة التي تخص الفرد الفلسطيني، والنكبة التي تخص العربي على أرض فلسطين، والنكبة التي يشعر بها المسلم الفلسطيني، وهناك نكبة تخص المسيحي الفلسطيني، ولدينا أيضا اليهودي الفلسطيني.

أ‌. نكبة الفرد الفلسطيني 
هي تلك المشاعر التي ترتبط بالقرف الممزوج بالحسرة والضياع، وهي تحمل بذورا ثقافية، تنطلق بالأسف على النتيجة التي آلت إليها الحروب العربية الإسرائيلية من أجل فلسطين، وتتعاظم عند مشاهدة الزحف الإسمنتي الإسرائيلي على حساب الأراضي العربية الفلسطينية، وتصل إلى حد الغليان عند تذكر كل مشاريع التطبيع التي تقوم بها بعض الأنظمة العربية مع الكيان المحتل في فلسطين.

ب‌. نكبة العربي على أرض فلسطين 
هو القلق الذي ينتاب الفرد العروبي عند مواجهته لتراث تبنيه ثقافة يهودية بلسانها العبراني على أرض فلسطين العربية، وهو الناتج من الصدمة التي كانت لصالح المشروع الصهيوني في مواجهة المشروع القومي العربي، بحيث تمثل صورة انتقال القدس كرمز للعروبة إلى "أورشليم" كرمز للعبرانية هوسا بمثابة مولد غضب مضبوط التأثير، بحيث يبتعد عن كلّ ما هو واقعي ملموس.

ت‌. نكبة تخص المسلم، المسيحي، اليهودي الفلسطيني 
المسلم يعتبر النكبة قد بدأت قبل فلسطين بسنين، لأنّ سقوط الأندلس وزوالها هي نكبته التي لا تراوح روحه ولا تزال تفعل فعلها في عمقه، بعض المسلمين يحنون إلى نماذج الإصلاح الإسلامي لمعالجة الوضع عبر الثقافة التي مثلها جمال الدين الأفغاني على سبيل المثال، البعض الآخر يرى العلاج لهذه النكبة الاسلامية في العودة إلى "السلف" ولا يتم تنفيذ هذا سوى بالطلاق مع الأنظمة الحالية وإحلال الخلافة.

وهناك من يعتقد بأن تجديد "الإسلام" هو الحل، ويرون في التأقلم مع النظام الدولي العالمي عبر قواعد إسلامية سيكون خير سبيل لإعادة نموذج الأندلس، كل هذا يولّد نوعا من الشرخ بين الواقع والوهم، قد ينتج عنفا مبررا في أكثر من حالة ولدى بعض الفئات بالتحديد.

المسيحي يرى النكبة كصناعة عمرية، بدأت من سقوط "Jérusalem" (القدس) من عهد عمر ابن الخطاب، حيث تمثل النكبة في النفسية المسيحية معنى الفقد، ذاك الفراق الذي تأكد في عهد صلاح الدين الأيوبي، وتواصل منذ ذاك الزمن ليكبر ويتغذى من العنصرية الإسرائيلية التي عززته بممارساتها ضد المسيحيين كأفراد يشبهون المسلمين على الأراضي الفلسطينية.

هناك أيضا ما يصطلح عليه بـ: "اليهودي الفلسطيني" وهو اليهودي الذي عايش نكبة المسلمين وما قبلها ونكبة المسيحي وما قبلها، وهو الرافض للصهيونية، بحيث تمثل النكبة بالنسبة له وحدانية تتأصل ضمن دوائر توتر تتلاطم ما بين الرغبة في البقاء على "أرض الميعاد" لكن ليس على الطريقة الصهيونية، وهو أعقد الأمثلة والنماذج المنكوبة فلسطينيا.

2. ردّ النكبة إلى أصلها (النكبة بين قوسيْن)
النكبة هي حالة غير طبيعية، هي وهج نقص يصيب الذات الإنسانية، بحيث تنتج حالة "نكبة" عند تحطم حلم ما كان بالأصل وهما قُرئ عبر الواقع بواسطة مقارنة غير متوازنة على أنه قابل للتجسيد، كذلك النكبة هي حلم يتوق إلى التحقيق لكنه لا يمتلك الأدوات من أجل ذلك.

النكبة العربية بدأت تاريخيا بمعاداة اليهود، وهي تستمد شرعيتها من التراث الإسلامي الذي كتبته السلطة في مراحل معينة من التاريخ، بدأ تجسيده بعد مرحلة الأندلس، طوّره في زمن معيّن لورانس العرب موصيا بتطبيقه، وعززه كيسنجر كمبدأ راسخ في إدارة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سياسيا، ومنه فإن كل فرد عربي هو يعيش نكبته الخاصة، لأن النكبة بالنسبة إليه قد أصبحت ثقافة مكتملة الأركان تتجلى في اسم فلسطين.