شعار قسم مدونات

سقوط الرمز

blogs- الحب
بعد أربعين عاماً، أنا في طريقي لملاقاتها، أربعون عاماً وهي محفورة في قلبي كنقش أسطوري منذ أن غرز كيوبيد سهمه في خافقي وأنا في حالة هيام بتلك الفتاة التي احتفظت ذاكرتي بتفاصيل جمالها الباهر كما رسمته أنا في مخيلتي ولا أدرك هل هي فعلاً كما رسمتها في خيالي أم غير ذلك، كل ما أذكره أني لم أجرؤ يوماً على النظر في وجهها ولم أر لون عينيها فرسمته في وجداني أخضرا كلون الأفق على ضفاف النهر الخالد.
 
كنت أنظر إليها من بعيد وهي تطير كملاك بأجنحة من نور وعلى رأسها هالة كتاج من لجين كلما رأيتها تنسل روحي في دوامة من الشغف تسحبني إلى سماوات لست أدرك أبعادها وحالة من الوجد تقطع أنفاسي لكأني أسبح في بحر من سديم. كنت في الخامسة عشرة من عمري، أتأوه من حبها وأداوي الآه بأمل لقياها. أعاني من وجع قلبي وقلة حيلتي، كنت أستحضر طيفها ليلازمني في كل مكان أكون فيه.

تأخذ بيدي وتقودني إلى صومعة وارفة الظلال، نجلس على أرجوحة من الورود الجورية تحملها عصافير بألوان قوس قزح، تتمايل على أنغام موسيقا ملائكية فأغرق في أحلامي وأشعر بسعادة لا مثيل لها. كلما أغمضت عيني أراها كغيمة تمتد فوقي وتنثر قطرات الحب الطاهر في مسامات روحي. لا أفهم لم كنت ضعيفاً أمامها حتى في أحلامي، هي الآمرة الناهية وأنا العبد المطيع. هي المتسلطة وأنا المستجدي رضاها. لم أجرؤ يوماً أن أتخيلني أعانقها أو أقبلها. أقصى ما كنت أحلم به هو ابتسامة من ثغرها العذب ومباركة حبي لها التي لم تتحقق أبداً.

كنت أرسل رسائلي لها دون عنوان، وكان يحذوني أمل بأنها تتلقى ما تبثه روحي في نجواها. لم أكن انتظر ردا منها فكل ما يشعرني بالسعادة حينها أنها تصل إليها وتحس بفيض عواطفي.

بعثت لها رسائل كثيرة أبثها لواعج نفسي وصبوة قلبي وآهات روحي، أضمنها أشعارا أنقلها من الحلاج وابن الفارض وابن عربي. كنت أحس أن ذلك الشعر قد قيل فيها على لساني كقول ابن الفارض:

والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي
ولا جلست إلى قــوم أحدثهــم إلا وأنت حديثي بين جلاسي

ولا هممت بشرب الماء من عطش إلا رأيت خيالا منك في الكاس
ما لي وللناس كم يلحونني سفها ديني لنفسي ودين الناس للناس

كنت أرسلها لها دون عنوان، وكان يحذوني أمل بأنها تتلقى ما تبثه روحي في نجواها. لم أكن انتظر ردا منها فكل ما يشعرني بالسعادة حينها أنها تصل إليها وتحس بفيض عواطفي. أربعون عاماً لمعت كشهاب سقط من السماء وكاد أن يتلاشى حين أصبح سره قريباً من تخوم قلبي. هل كان ذلك حباً حقاً وما معنى أن يكون الحب من طرف واحد.

هل ما زلت أحمل حبها في قلبي رغم ركام السنين، أم أن عشتار لم تكن سوى وهم تجسد فيها ورفعته بخشوع إلى مصاف الآلهة. رمز متوهج الضياء لظلام في أعماق ذاتي، كنت أوقده بنزف مشاعري واستنفاذ روحي. وكنت أستلهم من الرمز ما يضيء قلبي ويشعرني بإنسانيتي. هل كان حبي لها آنذاك ضرورة أم ترفاً، هل كان حتمياً أم خياراً، هل كان حباً.

بعد أربعين عاماً شاءت الظروف أن نلتقي في مغتربنا. بعيداً عن الوطن، بعيدا عن صومعة عشقي ومحراب خيالي. جلست مع امرأة ككل النساء، تحدثت معها، حدقت في عينيها فلم يكن لونهما كشواطئ الفرات الخالد. واسترقت النظر خلف كتفيها فلم يكن هناك جناحان من نور، ولم يكن فوق رأسها تاج من لجين. كان لها وقع خاص في تجويف صدري يحمل ذكرى جميلة لوقائع لم تكن سوى في خيالي، وأحداث عصفت كياني ودغدغت مشاعري بمزيج من الرغبة العارمة والرهبة المبهمة.

الآن فقط أدركت أني رأيت فيك رمزاً للأنوثة والرموز حين تتجسد مخلوقاً أمامنا ستفقد قدسيتها ورهبتها مهما كانت روعتها وجمالها. نحن نخلق الرموز، نكبرها ونجعلها عظيمة في وجداننا.

أحداث كنت فيها وحيدا لم تشاركني إياها، وعواطف مكدسة في شغاف قلبي اعتلاها الصدأ وتراكمت فوقها أعباء الحياة، نزوح وتشرد في أصقاع بلاد فقدنا فيها الشعور وتبلدت فينا المشاعر. وطن يحتضر وغزاة شوهوا ذكرياتنا الجميلة ودمروا مرابع الحب والخيال. سقطت كل الرموز وتهاوت دفعة واحدة.

قالت لي: لم كنت دائم التهرب من مواجهتي، لم لم تبح لي بحبك حينذاك. أجبتها والحروف تتلعثم على شفاهي: وما نفع أن نستحضر الماضي وهو لن يغير شيئاً من الحاضر كما لم يكن بيدي أن أكون غير ما كنت عليه. الآن فقط أدركت أني رأيت فيك رمزاً للأنوثة والرموز حين تتجسد مخلوقاً أمامنا ستفقد قدسيتها ورهبتها مهما كانت روعتها وجمالها.

نحن نخلق الرموز، نكبرها ونجعلها عظيمة في وجداننا. نقدم لها القرابين تقربا منها وطلبا لرضاها ثم ندرك أنها مجرد وهم خلقناه، فيسقط الرمز، وتستمر الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.