شعار قسم مدونات

الوَداع يا والدي الطّيب

blogs الوداع

بين ضجيج محطة القطارات وصوت الاستعلامات عن حال الرحلات من مدينة بون الألمانية، بدأت الحكاية أو ربما انتهت، رنّ هاتفي المحمول مقاطعاً فوضى السفر تلك، تناولته من حقيبتي وأنظاري معلقة على لوحة الاستعلامات أراقب زمن وصول القطار الذي سيقلني للمدينة التي أسكن فيها، جاءني ذاك الصوت (ألو، بابا كيف حالك؟ ما هذه الضجة لا أستطيع سماعك!)، أجيب على عجل وبشيء من التذمر: (أوه بابا ألم أخبرك أني سافرت لقضاء عطلتي في مدينة سكني القديمة مع بعض الرفاق! أنا الأن في طريق العودة وهذه أصوات القطارات).

يجيبني بعد أن تذكر الموضوع: (نعم نعم حبيبتي تذكرت.. حسناً سأكلمك عند وصولك للمنزل مع السلامة) .أغلقت الهاتف وتابعت تفاصيل رحلة العودة إلى المنزل، صعدت في القطار، وقد كان مزدحماً بالمسافرين، لم أجد مقعداً سوى ذاك الذي يكون بعكس اتجاه مسير القطار، ذاك المقعد لا يروقني فهو يشعرني بالدوار، لكن فضلته على أن أقف متمسكة بأحد الأعمدة، كانت النافذة بالقرب مني على الجانب الأيسر، الطريق كان مشجراً ويرتدي حلّة خضراء ربيعية خلاّبة، سكبت بعضاً من الشاي الأخضر في فنجاني وأخذت بمتابعة الطريق في عكس اتجاه المسير، تلك الوضعية تشعرني وكأن الزمان يعود بي للخلف .
 

مات! نعم مات، وكيف برجل في الستين من العمر لا يموت بعد كل ما حدث له من تهجير ودمار ووحدة وذل و٣ أشهر من غير منزل يأويه!؟ كيف لرجل ألا يموت وقد سُلِبَ منه أعز ما يملك بسبب وطن قبيح لم يعلم بأن والدي تغنى به لآخر لحظة؟

بعد انقضاء حوالي الساعتين وصلت للمحطة المركزية في مدينتي، استقليت (الترام) لأصل إلى منزلي، حملت حقيبتي في تثاقل على سلم العمارة، وصلت هناك وكان كل شيء قاتم اللون، كلّمت زوجي بالهاتف، هو سيقضي هذه الليلة أيضاً مع أصدقائه في المدينة المجاورة، كان عليّ أن أقضي هذه الليلة بمفردي، أعددت عشائي الخاص واعتذرت من والدي لأني لن أستطيع مهاتفته فأنا أشعر بإرهاق السفر.

كل تلك الاحداث كانت قطاراً من الذاكرة يمر أمام عيوني التي تحدق في صورة والدي _رحمه الله _، كل ما حدث في ذلك اليوم كان طبيعي، ولا توجد أي مؤشرات تنذر بحادثة وفاة قريبة جداً. في تلك الليلة المقيتة لم أكن أعلم بأن والدي يشد الرحال إلى اللاعودة، وأن تلك المكالمة في محطة القطارات كانت الأخيرة، وأن صوت والدي الرخيم وآخر ما تبقى لي منه ومن العائلة سيتلاشى إلى الأبد.

في ليلة الوفاة كنت وحيدة في المنزل، وكان أبي في دمشق يقضي آخر ما تبقى له من ساعات العمر القليلة، لم أعلم بأن الوداع قريب جداً، لم أدرك بأن ما يفصلني عن فراق رحمتي الأخيرة من هذه الدنيا بعد فراقي لأمي _ رحمها الله _ سوى فجر اليوم التالي، جلست في الفراش وكان النعاس يغلبني، لكن هناك مشهد لا يفارق مخيلتي في ليلة أبي الأخيرة، كان مشهد وداعي لأمي قبل ساعة من الدفن يلوح في ذاكرتي، ويمزقني رغم أنه مضى عليه أكثر من ست سنوات، لا أعلم لماذا الأن يعادُ إليّ؟ لم أتخيل بأن مشهداً آخر سيضاف إلى الشريط بعد ساعات قليلة فقط.

أغلقت أجفاني أردد استغفاري المعتاد قبل النوم، محاولة في تشتيت ذهني المشتاق وقطع حبال الماضي، نمت لأستيقظ في ساعات الفجر المبكرة على ألم يقطع أحشاء معدتي، تناولت هاتفي على عجل لأذكر زوجي برسالة على الواتس أب ليحضر معه دواء لي، لكن ما إن فتحت الهاتف ووصلته على الشبكة إلا وانهالت علي عشرات من الرسائل لم أفهم لما كل هذا، لفتتني تلك الرسالة من ابن عمي الذي نادراً ما يراسلني، فتحتها ولم يكد عقلي يصدق ما كُتب فيها، كانت حروفها قاسية بأسلوب مباشر جاف، نسي صاحبها بأن من سيقرأ الرسالة هو من طينة البشر!!

 

لم أتذكر عتابه على الأسلوب وإنما ما حملته لي الرسالة من مأساة جديدة كان أبلغ من كلمات عتاب، كتب لي في تلك الرسالة المشؤومة: (أنا أسف لما سأخبرك به لكن الجميع أوصاني بنقل الخبر لك ولن أستطع الكتمان أكثر، والدك البارحة في منتصف الليل جاءته وعكة صحية ونقلوه للمستشفى لكن للأسف مات، العمر الك)! بهذه البساطة؟! إنا لله وإنا إليه راجعون، كانت أول ما خاطبت به نفسي بعد تلك الصاعقة، كنت أحاول تمرين هذه النفس دائماً بأن يسبقها الإيمان قبل ردة فعلها البشرية، نجحت في أغلب الأوقات لكن القلب تصدع من الداخل تماماً .
 

والدي الطيّب، لو علمت قدر اشتياقي لك وقدر (اليّتم) الذي زرعته في قلبي بعد رحيلك، لما رحلت يا غائبي، لكن مشيئة الله أرادت ذلك، وإنّا بإذن الله راضون

مات! نعم مات، وكيف برجل في الستين من العمر لا يموت بعد كل ما حدث له من تهجير ودمار ووحدة وذل و٣ أشهر من غير منزل يأويه!؟ كيف لرجل ألا يموت وقد سُلِبَ منه أعز ما يملك بسبب وطن قبيح لم يعلم بأن والدي تغنى به لآخر لحظة؟ حينما كتبت مدونتي (عندما تهجر أبي ظمأت دمشق) لم أدرك بأن المدونة التالية ستكون نعوته، كيف لا يموت وقد اجتمعت كل أسباب الموت؟ لقد مات حقاً عندما خرج من بيته مثل المتسولين هرباً من القصف الجوي، مات حقاً عندما ابتعدت عنه ابنته الوحيدة لتصبح لاجئة في بلاد الصقيع ولا سبيل للم شمله، ولا أمل في لقاء قريب. 

والدي الطيّب، أسميتك طيباً لأن جميع الناس الذين عزوا بك ذكروا تلك الخصلة عنك، طيّب جداً كزهرة توليب تتفتح بعد شتاء قارص، لو علمت قدر اشتياقي لك وقدر (اليّتم) الذي زرعته في قلبي بعد رحيلك، لما رحلت يا غائبي، لكن مشيئة الله أرادت ذلك، وإنّا بإذن الله راضون، كنت التوليب المتفتح في حديقة عمري، والآن ماتوا جميعاً، وأضحيت كوادٍ غير ذي زرع، إليكما أكتب والديّ (علي وسعاد)، اللهم ارحمهما كما ربياني صغيراً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.