شعار قسم مدونات

وأمَّا ثمود

blogs - حفتر خليفة

منذُ قرابة العشرين عام تقريباً، ويوم كان عمري يعدُّ على الأصابع، كنت أجلس بين يديْ شيخي وأكتب ما يمليه عليَّ بطريقة الكتابة على اللوح الشهيرة في ليبيا، وذات يوم كنت أجلس وأكتب، فإذا به يُمْلِيني من سورة "فُصّلت" قول الله تعالى: "وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى"، فوقعت الآية في سمعي وكتبتها، ولكنّي كنت أستغرب صنيع قوم ثمود، فمن يستحب العمى على الهدى؟!

مرّت الأيام والسنين، ولم أبحث عن المعنى والتفسير ولم اسأل عنه أحد، رغم أنه شدَّ انتباهي واستغرابي كثيراً في ذلك اليوم، ولكن كُلّما قرأتُ الآيةَ أو سمعتها استغربت من صنيعكم آل ثمود!!، فبعد أن يهديكم الله، تستحبون العمى!! ولمَّا كان حال ثمود هو عدمُ قبول الإرشاد من الله تعالى، والذي هداهم هداية إرشادٍ برسوله إليهم وتأييده بآية الناقة التي أخرجها لهم من الأرض، رغم ذلك كان العمى مفضلاً عندهم، فكان العقاب مناسباً للجُرم، ولكنّي لا زلت لا أفهم، كيف ارتضوْا أن يستحبوا العمى؟!

جاء الربيع العربي وبدأتُ كأحد الليبيين الذين وُلدوا وعَاشُوا في حقبة القذافي، التي انتهت بنهاية 2011 م، أسمعُ مُصطلحات لم تألفها أُذُنِي، ولم أكن أعرف معناها أصلا (ديمقراطية – تداول سلمي على السلطة – انتخابات – برلمان – أحزاب)، فكل هذه المصطلحات كان يحظر علينا حتى التفكير فيها، بل حتى الحلم بها، إبّان حقبة القذافي.
 

تُحرق البُيوت وتهجّر العائلات وتُقفل الخَلَوَات وتُقصَفُ المدارس والأحياء، وترتكب المجازر، يقبض على النّاس وبعد أيّامٍ تُرمى جُثَثُهم في مكبّات القمامة، يقتل في يوم واحد 11 مُعلماً لكتاب الله، والقوم في فرحٍ بما يحدث!!

كان للحرية طعمٌ كالشهد، أخذنا نكتُب وندوّن في صفحات التواصل الاجتماعيّ بكلِّ حُرية، وقفنَا في لجان انتخابية، كان لي شرفُ أن أكون من أعضاء اللَّجنة المشرفة على أول انتخابات برلمانية ليبية في 7 يوليو 2012م، لأجل اختيار "المؤتمر الوطني العام"، كانت الانتخابات يومها قد شهدت إقبالاً كبيراً جدّاً؛ لأنها الأولى من نوعها في ليبيا منذ 42 عام، سمعت يومها من جديد قول الله: "وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى"، ومن جديد قلت في نفسي: كيف لثمود أن يفعلوا هذا؟، من يفعل هذا؟!! من يستحب أن يكون ضـالاًّ أعمى، على أن يكون مهتديا مبصراً؟!

لكن سيكتب لي أن أفهم ذلك بعد ثلاث سنواتٍ فقط، وبدون أن اسأل أحداً، وكأن الله أراد أن يُفهّمني بالتجربة، ففي الرابع عشر من شهر فبراير لسنة 2014م أعلن السبعيني المتقاعد (خليفة حفتر) من على قناة "العربيَّة"، تجميد الإعلان الدستوري الذي أُعلن عنه في ثورة فبراير، وأردف قائلاً في تلك الجمعة التي عرفت في ليبيا بـ "جمعة قناة العربية"، أنّ المؤتمر الوطني العام والحكومة المنبثقة عنه في حكم المتوقفين!!

يومها بدأتُ أفهم كيف استحبّ ثمودٌ ما استحبوّه، في قول الله تعالى "فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى"، لكنّ الفهم سيكون جزئيّاً، انطلقت النقاشات فوراً بين الليبيين، فبين مؤيّدٍ لما فعل، ممن يحنّ إلى النِّظام السَّابق، وبين مُعارض لما فعل مضى "انقلاب العربية"، وترك في نفسي فهماً بسيطاً للآية، فالقوم فيهم تشابهٌ مع ثمود من حيث لا يدرون، فالمؤيدون لما فعل من تعطيل للدستور، وإيقاف للسلطة التشريعية، لا يزال الحبر الانتخابي يُخضّب أصابِعَهُم، ليكون شاهداً على أنهم يناقضون أنفسهم، ويستحبون أن تُمتهن اختياراتُهم، ومَضَتِ الأيَّام في دورتها.

السَّادس عشر من مايو من ذات العام 2014م، ومن جديد السَّبعيني المُتقاعد يُهاجم هذه المرَّة مدينة بنغازي، كان يوم جُمعة أيضا بالمناسبة، ويَتَصدى لهُ ثوّار المدينة، ومنذ هذا التاريخ أًذِن لنزيف الدم في بنغازي أن يبدأ. السبعيني المتقاعد مرة أخرى وتحديداً صباح الخامس عشر من أكتوبر من عام 2014م، يحرَّك الرعاع من الشارع في بنغازي بالإضافة إلى مئات القادمين من القرى المجاورة لبنغازي، ويقتحم بهم المدينة، لتكون لي وقفة مع استحباب ثمودٍ للعمى على الهُدى، ولكن هذه المرّة تصريحاً لا تلميحاً.

ما حدث في هذا اليوم وما بعده هو باختصار: أنّ الله يقيم الحجَّة ويرسل الآيات لمن يقف مع حفتر وكأنه جلّ في علاه يقول لهم: إنكم في صفّ الباطل، وكأن القوم لا يسمعون ولا يرون، أم أنهم استحبُّوا العمى على الهدى؟!

تُحرق البُيوت وتهجّر العائلات وتُقفل الخَلَوَات وتُقصَفُ المدارس والأحياء، وترتكب المجازر، يقبض على النّاس وبعد أيّامٍ تُرمى جُثَثُهم في مكبّات القمامة، يقتل في يوم واحد 11 مُعلماً لكتاب الله، والقوم في فرحٍ بما يحدث!! يُخرج الشيخ المسن (بوشعالة) من بيته وهو المعلم في المدرسة القرءانية من خمسين عاماً والقوم يستحبُّون العمى!!

 

ترتكب مجزرة (آل صويد) فيقتل الأب وأبناؤهم جميعاً أمام زوجاتهم وأخَوَاتهم وأطفالهم، والقوم يستحبون العمى فيبرّرُون ذلك!! ترتكب مجزرة (آل الكرشيني) فيقِف أصحاب السوابق أمام البيت مُنتشين بقتل الابن وصهْرِه وحرق المنزل، والقوم يستحبّون العمى!! تُحرق الجثث بعد أن تصل للمستشفيات، ويقتل الأسرى وتصور عمليات الإعدام، لا عليكم فلا ملام ولا من يلوم، فالقوم استحبوا العمى!!
 

أرسل الله لقوم ثمود  نبيه، وأيده بالآيات العِظام، فدعا قومه للتدبّر في عالم النفس البشرية العجيبة التكوين، والاتِّعاظ بمصارع الغابرين، ثم أخرج لهم النّاقة، فأبوا إلا الضّلال، واستحبّوه وفضّلوه

في قنفودة تُنبش القبور فتخرُج منها أجساد ثوار بنغازي غير متحلّلة، منهم من أُخرج بعد عام ومنهم من أُخرج بعد أشهر، ورائحتهم طيّبة، حتّى تعجّب أحد جنود حفتر وهو يخرج جسداً من قبره، فقال: (بنتهم سمحة)، مستغربا من طيب رائحتهم، فأرسلها مثلاً دون أن يدري، والقوم في طغيانهم يعمهُون وفي غيّهم مُستمرون، وفي إصرارهم على استحباب العمى على البصيرة سائرون.

أما ثمودٌ قوم صالح، فقد أرسل الله لهم نبيه، وأيده بالآيات العِظام، فدعا قومه للتدبّر في عالم النفس البشرية العجيبة التكوين، والاتِّعاظ بمصارع الغابرين، ثم أخرج لهم النّاقة، فأبوا إلا الضّلال، واستحبّوه وفضّلوه. وأما ثمودٌ من قومنا، فقد أرسل الله لهم الآيات من كرامات في أجساد الذين يقاومون الظّلم، ومن جُور الجَوْر المتمثّل فيما يحدث في بنغازي من قتل واغتيالات وتصفيات ميدانيّة، ومن ضنك العيش وارتفاع الأسعار وانهيار العُملة، "فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا"، لكنهم يستحبون الضلالة.

أما الآية التي كان يحيرني موقف ثمودٍ فيها، فبت اليوم أفهمُها وأصبحت بين ظهرانَيْ قومٍ يستحبون العمى على الهدى، وصرت كلما مرّت بي الآية أجد لها عشرات الأمثلة في واقعي ومن أقاربي وجيراني، ولكنّي أُذكر ثموداً من قومي أن الآية وردت في سورة "فُصّلت" والتي جاء في نهايته قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْلَمُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، فاحذروا..

وكانت قصّة ثمود فيها بإعجازٍ وبلاغةٍ وتلخيص إلهيّ عجيب، فكانت الآية جامعةً لفعلهم ولجُرمهم ولعُقُوبتهم وعَاقِبتهم (وأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) فلا يكُونَنّ أحدُنا كثمُود..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.