شعار قسم مدونات

هل نتأثر بمعاني القرآن أم بصوت القارئ؟

quran 2
كان أحد القرّاء يقرأ في إحدى الندوات من سورة الدخان حتى وصل إلى قول الله تعالى (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الاْثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِى فِى الْبُطُونِ كَغَلْىِ الْحَمِيمِ) وإذ بأحد المستمعين يصرخ ويقول "الله الله يا عم الشيخ ربنا يرزقك ويرزقنا من شجرة الزقوم"!
هذا الموقف ذكرني بما ذكره ابن الجوزي في كتابه أَخْبَار الْحَمْقَى عن يحيى بن جعفر، قال (كَانَ لِي جَارٌ مِنَ أَهْلِ فَارِسٍ، وَكَانَ طَوَالَ اللَّيْلِ يَبْكِي، فَأَنْبَهَنِي ذَاتَ لَيْلَةٍ بُكَاؤُهُ وَنَحِيبُهُ، وَهُوَ يَشْهَقُ، وَيَضْرِبُ عَلَى رَأْسِهِ وَصَدْرِهِ، وَيُرَدِّدُ آَيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا نَزَلَ بِهِ؛ قُلْتُ: لَأَسْمَعَنَّ هَذِهِ الْآَيَةَ الَّتِي قَتَلَتْ هَذَا، وَأَذْهَبَتْ نَوْمِي، فَتَسَمَّعْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا الْآَيَةُ (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذَىً))!

هذه المواقف جعلتني أتساءل هل نحن حقا نتأثر بمعاني القرآن ونتدبر آياته ونخشع لكلام الله أم نستمتع بتلحين الآيات والتغني بها وجمال صوت القارئ وفقط؟ إن التأثر بآيات الله وكلامه وتدبر معاني القرآن هو الخشوع الحقيقي، والتأثر بتلحين الآيات ورنينها وصوت القارئ وفقط هو التخشع! فالخشوع هو هدوء وسكينة تعتري القلب فإذا امتلأ منها القلب فاض بها قلبه على جوارحه، فتنكسر الجوارح كما انكسر القلب، والتخشع هو التصنع في إظهار الخشوع على الجوارح أو دمعات العين والقلب من ذلك فارغ! فالخشوع من الإيمان والتخشع من النفاق.

هل تبكي عندما تمر بآية عذاب فتشعر بأنك على وشك الهلاك! ثم ما إن تلبث فتجد أن رحمة الله وسعت كل شيء فتبتسم؟ إن كنت تبتسم وتبكي وتفرح وتحزن عند سماعك للقرآن فهي علامة على حضور قلبك.

قيل إن عمر ابن الخطاب رأى رجلا يتمايل برأسه في الصلاة، فقال له عمر رضي الله عنه (يا صاحب الرقبة إن الخشوع في القلب، ليس في الرقبة). وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن أخوف ما يخاف على أمته "نَشْؤٌ يَتخذِونَ القرآنَ مَزامِير يُقدِمُونَ أحَدَهمْ لِيُغنيهم" أي قوم يتغنون بالقرآن يخرجونه من معناه بزيادة التلحين وشدة التمطيط فينتقل القارئ من حالة التأمل إلى حالة "التمزج" وهي الاستمتاع بمزامير الغناء دون التدبر في المعنى.

نعم، لا ننكر أن حسن الصوت بالقرآن هو من باعث الخشوع في النفوس وذاك من جميل الفعل!، فالنفس تكره كل قبيح وتقترب من كل جميل!، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (حَسِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ، فَإِنَّ الصَّوْتَ الْحَسَنَ يَزِيدُ الْقُرْآنَ حُسْنًا). لكن أن يتحول باعث الخشوع إلى الخشوع نفسه فذاك من قبيح الفعل. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمارة حسن الصوت، فقال "أَحْسَنَ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ الَّذِي إِذَا سَمِعْتَهُ يَقْرَأُ حَسِبْتَهُ يَخْشَى اللَّهَ"، فالصوت الحسن ليس بكثرة التمديد والتطريب والتلحين! وإنما هو صوت يبعث في القلب الهدوء فيستعين المرء بذلك على تأمل كلام الله لا على التأمل في صوت القارئ.

وقد استنبطت عدة نقاط مما سبق وجعلتها على هيئة أسئلة لنستعين بها في معرفة حقيقة الخشوع عند سماع القرآن إن كان ذلك خشوع الإيمان أم تخشع وتصنع وفقط!

أولها: أين تجد قلبك؟! 
هل هو حاضر معك في استماعك أم فقط تسمع بأذنك؟! إن كان سماعك بأذنك دون قلبك فهي علامة خطر، يقول الله تعالى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ). أي يسمع بأذنه وقلبه شاهد، غير غافل عنه ولا ساه.

إن كنت تتأثر بقراءة القرآن كما الحال في سماعه فهو دليل صدق، وإن كانت النفوس تميل إلى حب السماع أكثر من القراءة فلا بأس في ذلك، لكن إن انعدم خشوعك عند قراءته فهو دليل على بُعد القلب وانصرافه.

ثانيها: هل تتفاعل أم أنك على حالة واحدة؟!
بمعنى هل تبكي عندما تمر بآية عذاب فتشعر بأنك على وشك الهلاك! ثم ما إن تلبث فتجد أن رحمة الله وسعت كل شيء فتبتسم؟ إن كنت تبتسم وتبكي وتفرح وتحزن عند سماعك للقرآن فهي علامة على حضور قلبك. قال تعالى (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) سورة الزمر.

ثالثها: هل تتأثر فقط عند سماع القرآن ولا تتأثر بقراته؟
إن كنت تتأثر بقراءة القرآن كما الحال في سماعه فهو دليل صدق، وإن كانت النفوس تميل إلى حب السماع أكثر من القراءة فلا بأس في ذلك، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب سماع القرآن من غيره، لكن إن انعدم خشوعك عند قراءته فهو دليل على بُعد القلب وانصرافه.

نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الخاشعين والخاشعات وأن يشرح صدورنا لتدبر كتابه وتأمل آياته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.