شعار قسم مدونات

كيف تكون عادلاً مع أضدادك؟

blogs - ميزان العدل
الإنسان يملك من المؤهلات العقلية الفطرية ما يجعل اتجاهه نحو المدنيّة civilization هدفاً من أهداف وجوده العميقة. قد تختلف التفاصيل، غير أن ثمة قيماً لم أرَى – ظاهريّاً على الأقل – هذا التبنّي العام دليل على "الصحة المطلقة" لا النسبية. فالناس تتفق اتفاقَ إجماع على عدد من القيم إلى الدرجة التي أصبحت عندها هذه القيم مُشتركاً إنسانيّاً يمكن البناء عليه رغم عمومية المصطلحات الدالة على مفاهيم هذه القيم، فلم أرى من يختلف على حق الحياة مثلاً، أو حق العدالة، وإن اختلفت أساليب تحقيق كل واحدة منها اختلافاً يبلغ أحياناً درجة التنصّل منها! 

ضمن منظومة القيم المتفق عليها تبرز منظومة جزئية تتقاطع مع الكلية، أعني منظومة القيم العلمية التي تضم مثلاً: الحياد العلمي، أو العدالة العلمية، وعدداً اخر لا يمكن لأي عالِم اليوم تجاهلها وإلا انكشف ظهره للناقدين بل والشاتمين، وثمة فضائح في المجتمع العلمي في هذا الإطار.

بين هذا كله، منظومتي القيم العامة والعلمية، هناك جانب لا يظهر الظهور الكافي رغم أصالته العقلية، وهو كيفية الحكم على الشخص المختلف في حال الشهادة عليه. هذا الأمر موجود في صلب العلاقة "مع الآخر" التي لم يبق أحد لا يتحدث عنها اليوم. وهو أمر طبيعي جدا بل مفروض فرضاً على الدماغ والواقع، إذ كلما زادت صلات البشر تعقيدا، برز شأنُ "الآخر" هذا كناتج طبيعي لهذا التعقيد. ولقد كانت هذه الجزئية مثار تأمل مستمر عندي، بحيث صار لدي تصوّر أظنه قابلاً للطرح، بقدر ما أراه فطرياً غير مثير للخلاف، بحيث يخرج عن أن يكون فكرة شخص ما ليكون فكرة عامة.

الإنسان "المتسوّق" اليوم ليس في حالته العقلية الطبيعية، لأنه خاضع للإغراء، والإيهام، ومنافسة الآخرين. الإنسان الذي يتبنى عقيدة بالإكراه ليس في حالة طبيعية، لأنه خاضع للخوف.

كنت مرة قلت: إن علينا التمييز بين عمليتين في مجال إنتاج الهوية، هما "التوصيف" و"التّوظيف". فالتّوصيف يبدأ من وصف الأنا وتحديد الهوية، وينبني على هذاجانبُ "توصيف الاخر" بل إن توصيف الاخر هو جزء من هذه الهوية. والتّوظيف يتضمّنُ: كيف توظف هذا الاختلاف بحيث لا يتعدى التوصيف كونَه أداة تعريف للهوية .

الإنسان بحاجة إلى هُويّة: نفسية فردية، وجماعية. وفي حقيقة الأمر فإن هويات الإنسان لا ينبغي أن تتوقف عند حد معين:البلدة مثلا، أو القومية…فهذه كلها هي "هويات" فعلية، لا ينتج عن مقاومتها سوى خراب نفسي واجتماعي. ويمكنك إيجاد الأدلة أينما نظرت في التاريخ والحاضر. وآخر حدود الهويات هي الهوية الإنسانية، التي يلتقي فيها البشر جميعاً، تليها هوية لم أكن أدخلتها فيما سبق رغم علاقتي القديمة بها: هي الهوية الطبيعية، بحيث تشمل العلاقة مع أجزاء هذا الكون كله: المادية والحيوية. سأتجاوز التفصيل في هذا فقد اضطررت إلى التقديم به بوصفه مقدمة لا غير، لكنها مقدمة ضرورية لأصل إلى موضوع "العدالة مع الاخر".
 
هذا الآخر "المختلف" بالضرورة، كيف أتعامل معه؟ لاشك أن الصورة اتضحت الآن، وسيجد كثيرون إجابة مشتركة تتضمن مثلاً: عدم السعي إلى إلغائه، ليس بالقسر فقط، بل حتّى بالإيحاء / أو التخييل أو الإيهام أو الإغراء…إلخ/ ذلك أن هذه كلها وسائل بدائية لا تليق بالعقل البشري الساعي إلى التمدن، لا تليق بي ولا بك.

الإنسان المتسوّق اليوم ليس في حالته العقلية الطبيعية، لأنه خاضع للإغراء، والإيهام، ومنافسة الاخرين. الإنسان الذي يتبنى عقيدة بالإكراه ليس في حالة طبيعية، لأنه خاضع للخوف. الإنسان الخاضع لكل هبّة ريح ليس على طبيعته.. أنا أردد مع "طاغور" سأفتح نوافذي لكل ريح..على أن لا تخلعني من جذوري..وليس هذا إلا بمعنى أن عقلي هو الوحيد القادر على انتقاء الريح المناسبة التي يعتبرها، بعمق، حقيقة تناسبني .. وهكذا فكل ما عدا العقل مما ذكرته أعلاه ليس سبباً حقيقياً للتغير: لا ..أنت تتبع قناعة مزيفة إذا امنت بما يقوله اباؤك الفكريون أو البيولوجيون.. أنت تتبع طريقاً مزيفاً إذا لم يكن العقل هادياً حتى في إيمانك الديني.

الإسلام، أيّها المتحمّس الذي يريد إلغاء الأديان، له دور أساس في تحرير الإنسان من ضغوطات اللاوعي على الوعي، بل هو يتوجه أصلا لتحرير دفائن اللاوعي لتمرّ بمراجعة واعية!

حسناً ..بعد أن يوصّف أحدنا هُويّته وذاته، وهُوية الآخر، سنرجع إلى تلك الجزئية: أنت تختلف، ثم لسبب ما، كان عليك أن تقول شيئاً ما..شهادة ما..رأياً ما في آخرَ يختلفُ عنك، ربّما إلى درجة التناقض بل ربما إلى درجة البغضاء لسببٍ ما، فما الحكم الذي قد تقوله، إن سئلت عن خصلة لم تكن فيه؟ السؤال يحمل الإجابة طبعا.. وسبب أنك لمحت الإجابة هو شعورك التلقائي بجوهرية العدالة، ورغبتك الدفينة في ضمّها إلى قائمة "قيمك الجميلة" الرفيعة..وفي النهاية: توجهك الفطري نحو التمدن. المشكلة تكمنُ في الممارسة دائماً: فالبغضاء تجعلك تنسى وتنحرف، ومداراة طرف ثالث، أو الخوف منه، تجعلك تظلم.
 
هنا، على الحريّة أن تأخذ دورها: إذا تحررت من البغضاء، أو من تأثيرها الكلي على الأقل، فأنت حرّ ..وإن تحررت من مجاملة الثالث أحياناً تكون أكثر من مجاملة: تكون خوفاً، أو نفاقاً، أو طمعاً….إلخ ) إن فعلت ذلك فأنت حر. وإذا تحررت فأنت ستحكم حكماً عادلاً، وإن حكمت حكماً عادلاً تكون استخدمت عقلك الاستخدام الأمثل. هنا ينطلق العقل انطلاقته المثلى في مزيج من المنطق والعاطفة والإبداع والشعور بالسلامة النفسية والإيمان.

الإسلام، أيّها المتحمّس الذي يريد إلغاء الأديان، له دور أساس في تحرير الإنسان من ضغوطات اللاوعي على الوعي، بل هو يتوجه أصلا لتحرير دفائن اللاوعي لتمرّ بمراجعة واعية، وهو هدف التحليل النفسي بالمناسبة.

طلب شخص من الرسول الكريم وصية فأوصاه أن : "لا تغضب". وقال أن لا تباغضوا ولا تحاسدوا….إلخ، لكن ثمة آياتٍ قرانية لم أر لها مثيلاً تنهى عن عدم العدالة حتى مع من تبغضه، مثلاً: "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ". (والشّنَآن هو الكره، ولا يَجْرِمنّكم، أي: لا يدفعكم).

إن الإنسان بحاجة إلى هُويّة: نفسية فردية، وجماعية. وفي حقيقة الأمر فإن هويات الإنسان لا ينبغي أن تتوقف عند حد معين:البلدة مثلا، أو القومية.

هذه العدالة العقلية ستنعكس علي الهوية/على الأنا: سلامةً نفسية، وعلى الآخر سلامة نفسية واجتماعية. نعم ..ليس الآخر، في الإسلام، محطّ ظلم، ولا ينبغي أن يكون، وإن أكبر الظلم قتل النفس البريئة، وإن أكبر الظلم اتهام دين محدد بكل جرائم الأرض اعتماداً على كلام بشر يخطئون ويظلمون. وإن من الظلم ظلم عرق معين لأن حزباً يدعي الحكم باسم عرق اخر. وإن من الظلم أن تتعامل وكأنك الله على الأرض، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ لا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلانٍ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلِيَّ أنْ لا أَغْفِرَ لِفُلانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلانٍ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ ". الله أعلى من أن يتقمص دوره بشر يحكم على الناس بما لا يعرف. والمدنية أعلى من أن يتقمصّها شخص "حاذق" يُخرج منها "المتخلفين" على كيفه المريض. والحياة أعظم من أن نحكم على الناس من زاوية عقدنا وأهوائنا وأمراضنا.

هذا مزيج منسجم بين الحرية والهوية والعلاقة مع الاخر والعقل والدين والسلامة النفسية بناه الإسلام في الإنسان، مهما انحرف عنه من انحرف، ومهما تعامى عنه "المُقيَّدون" بأغلالهم إلى عضلات المصطلحات الثقيلة، ودراويش ترديد الجمل الرّنانة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.