شعار قسم مدونات

الغبي والمتغابي

blogs حزن
ليس الغبي بسيّدٍ في قومهِ … لكنّ سيّد قومه المتغابي.

من قصيدة لأبي تمام، فمِن الشعر حكمة، ومِن البيان سِحراً، لفتَ انتباهي هذا البيت، ودارت في مخيلتي عشرات الصور في حياتنا، تختصرها هذه الأبيات. الغباء والتغابي، وحدةُ الاشتقاق وتضاد المعنى، فبينما يعني الغباء قصور أو قلة القدرات العقلية، يُعتبر التغابي من أعلى صور الذكاء ويقترب من العبقرية في الزمان والمكان المناسبيَن.

وتجدر الإشارة إلى النسبية في الوصف بالذكاء والغباء، فما يُعتبر غباء في بيئةٍ ما قد يكون طبيعياً في أخرى وربما نعمة عظيمة في بعض الأحوال، فذو العقل يشقى في النعيم بعقلِه وأخو الجهالة في الشقاوة ينْعمُ، كما يقال. التغابي، التغافل، التغاضي عن الصغائر، عدم الانغماس في التفاصيل، وما يترتب عليه من ثبات الموقف وراحة البال. في الحقيقة قد يبدو الموضوع في ظاهره مملاً، أو بعيداً عن ما يحدث في الواقع، لكنه في وجهة نظري مِن أساسيات التفكير ومن أهم أدوات التعامل مع واقعٍ شديد التقلب كواقعنا الذي تتقلب فيه الأفكار والمواقف بين ليلةٍ وضحاها.

التغابي، في أمور العلم والفتوى والقضاء، تعني التغاضي عن التفاصيل وعدم تحجير أحكام الشرع بالانغماس في التفاصيل، واعتماد أسلوب (ما بال أقوام) بديلاً عن الانجرار نحو شخصنة الفتاوى.

في حياتنا، وبسبب ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، تتفرع التفاصيل كانشطار نووي أو كتكاثر جرثومي وبائي في بيئة مناسبة، وتنتقل المعارك الكبرى إلى تفاصيل أصغر فأصغر، حتى لا يدري المتحاربون في اخرها علام تحاربوا، ولا يدري القاتل فيمَ قَتَل ولا المقتول فيمَ قُتِل، بل وتعتمد بعض جهات التنازع استخدام هذه التفاصيل في حروبها الإعلامية التي تؤثر وبشدة على واقع الأرض.

ولا ينجح في اجتياز العواصف المفتعلة إلا من تغابى عن التفاصيل وركز على الهدف الرئيسي. ولا يخفى أنها ليست دعوة للاستسلام أو اليأس ولا مدعاةً لتلاشي الشخصية، إنما هي دعوة للإمساك بزمام الأمور والتحكم في ردود الأفعال، كما أن التغابي عن التفاصيل والصغائر من شأنه أن يكسر حِدة الجدل المحتدم في المجتمع الواحد.

التغابي، في أمور العلم والفتوى والقضاء، تعني التغاضي عن التفاصيل وعدم تحجير أحكام الشرع بالانغماس في التفاصيل، واعتماد أسلوب (ما بال أقوام) بديلاً عن الانجرار نحو شخصنة الفتاوي والأحكام وما يترتب عليها من بث روح الخصام في المجتمع، واستغلال ذوي السلطة للعلماء في تنفيذ مآربهم، ومخْرجاً جميلاً لهم للارتقاء بالعلم عن تدنيس الجهلة والعوام واستهزاء الرعاع.

ولهم في رسول الله أسوة حسنة وقد اعرض مراراً عمّن جاء يعترف لديه بجريمة، فضلاً عن أنه لم يجرِ باحثاً عن مثالب قومٍ حتى يكونوا هم من يجاهرون بها، وهو من نزل عليه في حق المنافقين( فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا) رغم علمه بأسمائهم وصفاتهم، وقال في بعضهم (لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه)، دون أن يعني ذلك التقصير في التبليغ أو الدعوة ولا الصمت عن قول الحق، إذ أن الهدف هو تغيير قناعات المخالفين لا هزيمتهم في معارك الكلام .

في الصحبة والصداقة والعلاقات الاجتماعية، رغم معرفتنا بالتفاصيل والكثير من الأخطاء، نتغابى، لتجري مراكب العلاقات الاجتماعية وترسو على شواطئ النجاة، ومَنْ ذا الذي تُرضى سجاياه كلها . في الحياة الزوجية، أيضا يتغابى العظماء فقط، رجالاً ونساءاً، ويفشل فيها المستعجلون وفاقدو الصبر.

وقد قال الله (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) وفي الحديث ( لا يَفْرَك، أي لا يبغض، مؤمنٌ مؤمنةً إن كرِه منها خلقاً رضي آخر) وقد قيل عن النساء يغلِبنَ الكِرام ويغلبهن اللئام، دون أن يعني ذلك ضياع الحقوق والواجبات في كل العلاقات الإجتماعية، وربما ندرك الآن معنى المقولة ( تسعة أعشار حُسن الخُلُق، في التغافل).

الغباء والتغابي، وحدةُ الاشتقاق وتضاد المعنى، فبينما يعني الغباء قصور أو قلة القدرات العقلية، يُعتبر التغابي من أعلى صور الذكاء ويقترب من العبقرية في الزمان والمكان المناسبيَن.

حسناً، هناك من الأحداث ما تستحق الكلام عنها، لكن التغابي عنها،لا جهلاً بل ترفُّعاً، أفضل. وهناك من الأشخاص من نتغافل عن فِعالهم، لا جُبناً، ولكن حِلماً. وهناك من المواقف ما يكون فيها الصمت والتغابي، لا الغباء، سيد الموقف.

بقي أن أقول أن التغابي قد يكون صفة جمعية للشعوب، التي تبدو أحياناً وكأنها أسلمت الزمام للأبد، أو ماتت، وعلى أقل تقدير توصَف مِن قبل مستبديها بالغباء، وما ثمّ إلا التغابي، حتى يطفح البركان، ويغضب الحليم، فالشعوب وإن نامت أو استنامت زمناً، لكنها لاتموت، ولا بد للقيد أن ينكسر.

عزيزي القارئ، تُرى، كم من صور التغابي تستطيع أن تستحضرها في واقعك، وما هي الصورة الأقرب إليك، أكاد أسمعك الان وانت تردد، مبتسماً، هذه الأبيات من ديوان الحكمة، ديوان العرب، الشِعر، وأرجو أن تكون مقالتي قد قدحت شرارة الأفكار لديك لتُخرج ابداعاتك الخاصة، التي لا يجيدها سواك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.