شعار قسم مدونات

فصاحة شهيدٍ مثقف

blogs - باسل الأعرج
كم تقدم أمتنا من شهداء، وقوافلهم تعرج متتالية في علياء هذه الأمة، مضرجين بالقاني، يطوفون سماء الملكوت وأجسادهم قابعة في دثار الجلال الأجلّ، يتسابقون للفداء في كل في شبرٍ وبقعة من بلادنا المترعة بالخراب والمكتظة بالاستخراب…
 
تصفحت كالكثيرين أخبار ذلك الشهيد الجديد، لم أكن أعرفه سابقًا، ولا مرّ على مسامعي اسمه ولا رأيت صورته قبلًا ولا رسمه، وما ضره ذلك أبدًا، ولا حطّ من قدره البتّة، بل كان نقصًا في معرفتي، فلا يضر الشهداء إن نسيهم في حياتهم أهل الأرض، لأن بعد استشهادهم يتحولون إلى أيقونات لا تقبل النسيان، تظلّ ذواتهم قابعةً في أفق الذاكرة راسخةً كبيارق لا تملّ من الخفقان، إنه الشهيد البطل المثقف باسل الأعرج رحمه الله وتقبله في الشهداء.

بعد خبر شهادة باسل ظهرت له العديد من المقاطع والصور، في المظاهرات والمشاركات، وفي لقاءات وندوات، إضافةً لصورٍ عفويةٍ مختلفة، ولكن مقطعًا يتحدث فيه عن دور المثقف، لفت نظري بشدّة فكررته مرارًا وتكرارًا، يتكلم فيه عن دور المثقف وعن "المثقف المشتبك"، فقلت أي فهمٍ حازه هذا الرجل، حتى قدم أنموذجًا بأن القضايا الكبرى، لا تحتاج للكلام الكثير، ولا العبارات الرنانة المنمقة فقط، ومن ثم يؤوب كاتبها قابعًا في انسلاخ تائه بين الدور والقدرة. لقد أظهر باسل بأن إشكاليات المثقف في عالمنا ودورانه الفارغ في دائرة عدم الإنجاز والعجز والارتهان والارتباك، ليست إلا بنية واهمةً وضعها المثقف لذاته في إطار ادعاء الفاعلية، ومناشدة الأثر.

يكفي أن نأخذ جولة في وسائل التواصل لمعرفة حجم التأييد والتمجيد الذي ناله الشهيد الأعرج، وقدرة الشهادة على صبغ القضية بلون التضحية.

كسر الشهيد باسل كل ما سبق، بفعله وشهادته وجعل من المثقف حالة متحركة بهموم وطنه، وكم لفتني صورته وقد أصيب في إحدى المظاهرات، فلم يكن الاشتباك إذًا وليد تجلٍ ما، أو قرارًا تمظهر للشهيد لحظة انفجارٍ أو غضب، بل كان خيارًا متأتيًا من فهمٍ عميق وبحثٍ دقيق، حتى جعلها أسلوب حياة ارتضاها الشهيد لنفسه وقضى في واحدةٍ من أروع صور الشهادة، ورسم بدمائه على ما كان معه من كتب أنموذجًا بالغ الرفعة والسمو.

باسل له من اسمه بسالة المقاوم وشموخه، وتلك البلاغة المحسوسة التي تتجاوز حدود المعقول، ففي أسطر وصيته التي تركها تجد تبتلًا من نمطٍ خاص، لم يجب عن الأسئلة التي كان يبحث عنها في وصايا الشهداء، ولكنه قال لنا بكل بساطة بأن الجواب هي الشهادة بحد ذاتها، فعل قادرٌ على المستحيل في زمن تضاءلت فيه المستحيلات…

يجدد باسل وصحبه في كل عملية، ما نعرفه ونراه من المقاومة الحقيقية، لا أكتب تنظيرًا للمقاومة، ولا تقييمًا لدور الشهيد ومكانته في بنية المجتمع الفلسطيني، ودوره في الانتفاضات والهبات المستمرة، ولكن فعل الشهادة يقدم حقائق لا يمكن إغفالها بعد عملية الشهيد الأعرج أو بعد كل عملية للمقاومة، أولها قدرة الانتفاضة على الاستمرار بدفعٍ ذاتي، وتأكيد بأن المقاومة هي العنصر الأهم في مواجهة الاحتلال، وتكبيده وإدخاله في حالة الارتباك والقلق.

ثانيها دور النخب العملي في المقاومة، وعدم الالتصاق بالتنظير المجرد القابع في أدبياتٍ بالغة الوهن – أحيانًا-، وتقديم نماذج عن الفداء لم نعد نراها كثيرًا في هذه المرحلة، وتطبيق بأن المقاومة الفرديّة خيار مناسب عندما يحاول المنبطحون تكميم المقاومة الجماعية.

ثالثها العودة مرةً أخرى للشباب، الذي كسر قيود التنسيق الأمني وإغراء العيش في البحبوحة، وإغراقه بالرغد والديون، ضمن سقف التنازل والتبعيّة، واستطاع جيل نشأ في ظل الاحتلال على تقديم رموز فاعلة وقادرة على التنظير وبناء الرؤية من جهة، وعلى المواجهة والفداء والتضحية من جهةٍ أخرى.

لكن مقطعًا يتحدث فيه  الشهيد الأعرج عن دور المثقف، لفت نظري بشدّة فكررته مرارًا وتكرارًا، يتكلم فيه عن دور المثقف وعن "المثقف المشتبك"، فقلت أي فهمٍ حازه هذا الرجل.

رابعها أثر الشهادة البالغ، ويكفي أن نأخذ جولة في وسائل التواصل لمعرفة حجم التأييد والتمجيد الذي ناله الشهيد الأعرج، وقدرة الشهادة على صبغ القضية بلون التضحية، وليس المكسب كما يريد البعض لها، مع الحذر من إبقاء هذا التعبير رهينًا بهذه الشبكات، فينحسر التفاعل بين شاشة الجوال ولوحة مفاتيح الحاسب.

ترجل باسل عن صهوة الكفاح، شابًا جميلًا مكافحًا في أتم وأكمل صورة، وهو في إهاب الشهادة مؤكدًا بأن الأقوال إن لم ترفدها الأعمال تظل حبرًا تذروه رياح التشتت والفرقة، وأختم هذه التدوينة ببعض ما قاله الشهيد في وصيته، والذي أراد أن يكتبها منذ شهور ماضية ولكنه قدر الله: "وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد". "وأنا الآن أسير إلى حتفي راضيًا مقتنعًا وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.