شعار قسم مدونات

جريمة اغتيال

blogs - الإعلام

إن جزءاً ليس ببسيط من حالات الاكتئاب والإحباط التي يعاني منها الناس اليوم وخصوصاً الشباب والشابات هو ذلك التيار المتدفق بلا هوادة من الأكاذيب التي تبثها وسائل الإعلام وتعززها مواقع الانترنت وشبكات التواصل الاجتماعي.. هذه الأكاذيب التي ترسم لها أحلاماً زائفة لا علاقة لها بالسعادة سوى في المظهر.. وتحقن في اللاوعي لديهم أنهم إن لم يحققوا هذه الأحلام فإنهم تعساء يجب أن يتمردوا أو يثوروا حتى على أنفسهم، وأحياناً كثيرة على ذويهم، وفي بعض الأحيان حتى على خالقهم..

إن خلاصة هذا البث العاطفي هو رسائل من كن حراً، كن نجماً، كن مشهوراً، كن غنياً، كن زعيماً، كن خالداً، كن.. كن.. إلى آخر كل تلك الصفات التي تغازل الأنا وتضخمها.. والنتيجة في النهاية، شباب محبط لا يجد الوسائل المشروعة لتحقيق هذه الأحلام، فيتآكله القهر، بعضهم يتعلق بقشة ضمير بداخله تمنعه من السقوط في أوحال الفساد، ولكنها تصيب قواه النفسية والعقلية في مقتل، خصوصاً مع انعدام وسائل التنفيس المشروعة.. فيسقط صريعاً للأمراض النفسية والعقلية المختلفة..

مصدر التمويل الرئيسي لوسائل الإعلام هو الإعلانات التجارية، وكلما ازدادت النزعة النرجسية لدى الأفراد، كلما زادت ميولهم لاستهلاك الكماليات.

أما البعض الآخر فيستسلم سريعاً، ولا يتوانى عن ارتكاب كل ما يتنافى مع الضمير والأخلاق سعياً وراء تلك الأحلام، حتى صار لدينا جيلٌ من الشباب نوازعه الأخلاقية ضعيفة، وضميره شبه ميت، وشعاره "هكذا هي الدنيا.." فهو لن يتوانى عن اقتناص أي فرصة لتحقيق مجده الشخص، وقد يصل به الأمر إلى استغلال أنبل الوسائل والمهن، كالطب، أو الفن أو ربما حتى مجال العمل الخيري أو الثوري..

يتمسح بديكور الروح المزيف الذي ينسج هالاته من حوله متخذاً من نبالة المهمة ترساً يحتمي به من سهام ضميره، ويخالفه قولاً وعملاً عند التطبيق، فالطب مثلاً تجارة، والعمل الخيري وجاهة ولا مانع أن يصبح أيضاً تجارة إن سنحت الفرصة، والفن يصبح رسالة بغض النظر عن محتواها!! حتى في تلك الأوقات التي تكون فيها رسالة من الشيطان.. أما العمل الثوري فهو فرصة نادرة لن يتوانى عن استغلالها ليصبح بطلاً مزعوماً، أو كائناً لزجاً مشهوراً، والبعض منهم والكل يعرف.. هذا البعض صارت الثورات تجارتهم..

وأمام هذ التيار المتدفق وفي ظل تقاعس أو ربما وهو الأغلب تآمر ممن ولاهم الله أمانة الناس، في ظل هذا التقاعس عن تقديم البديل سواء كان إعلاماً شريفاً، أو توفيراً لسبل الحياة الكريمة.. أمام هذا وذاك لا نملك إلى أن نذّكِّر كل شاب وفتاة أن الاستبصار بحقيقة زيف هذا البث ربما يساعدهم على أن يصوبوا ويصححوا اختياراتهم، من أجل سعادتهم وراحة قلوبهم أولاً، ومن أجل آخرتهم أيضاً..

إن وسائل الإعلام تستثير الميول النرجسية لدى الأفراد عن قصد، ويبدو أثر ذلك واضحاً في التحول الذي طرأ على سلوك الأفراد جيلاً وراء جيل، وهو أكثر وضوحاً عند الأجيال الجديدة اليوم، وبالأخص لدى المراهقين. فهي تتبنى خطاباً يحرض النزعة النرجسية لدى المتابع.

أحياناً يكون ذلك بشكل واضج فج مثل تكرار لا يملُّ لعبارات من نوع "لأنك تستحق الأفضل"، "لأنك الأقوى"، "كن نجماً"، "كن مسيطراً".. إلخ. لكن الأخطر هو ذاك الشكل الأكثر نعومة لهذا الخطاب من خلال الأفلام، والمسلسلات، والدعايات التجارية، وبرامج المسابقات، والبرامج الحوارية.. حيث يرتكز جزء أساسي من البث العاطفي على موجة الفردية والأنانية، وبناء نزعة النجومية لمدى المشاهد أو المتابع عموماً؛ وهو ما يجد صدى خاصاً في وجدان المراهقين، ويتأثر به غيرهم بنسبٍ متفاوتة.

لماذا تقدم وسائل الإعلام على ذلك؟

إن خلاصة هذا البث العاطفي هو رسائل من كن حراً، كن نجماً، كن مشهوراً، كن غنياً، كن زعيماً، كن خالداً، كن.. كن.. إلى آخر كل تلك الصفات التي تغازل الأنا وتضخمها.

يمكن اختصار الإجابة دون إخلال في شقين: – الأول يكمن في التمويل.. فمصدر التمويل الرئيسي لوسائل الإعلام هو الإعلانات التجارية، وكلما ازدادت النزعة النرجسية لدى الأفراد، كلما زادت ميولهم لاستهلاك الكماليات، حتى غدت ثقافة الاستهلاك هي المسيطرة بلا منازع، والنتيجة بالتأكيد زيادة غير محدودة في أرباح الممولين.

– أما الشق الثاني فربما كان الأخطر.. فكلما زادت الميول النرجسية لدى الأفراد قل إدراكهم ووعيهم.. فهي علاقة عكسية ثابتة على مر الزمان.. وبذا يصبح اقناعهم بمختلف الرسائل التي تبثها وسائل الإعلام أكثر سهولة، ويصبح بناء ثقافة القطيع ممكناً.. فأسهل وسيلة لإقناع أحدهم بفكرة ما هو العزف على وتر غروره الشخصي.. وحينها يمكنك أن تعزف أي مقطوعة تشاء.. اقتصادية أو تجارية أو سياسية أو ثقافية أو قومية أو دينية أو ..إلخ

ويحضرني هنا قول سيد الخلق صلى الله عليه وسلم" إن من البيان لسحراً" رواه أحمد والترمذي، إن الحقيقة باختصار هي أن وسائل الإعلام في أغلبها تمارس عن قصد، وسبق للإصرار والترصد، جريمة اغتيال أرواح جيل بأكمله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.