شعار قسم مدونات

الكاتب.. إنسان غير عادي

blogs - writer

"لا يزال الليل ليلا أكثر من اللازم" كافكا
لي صديقة، ترى أن ملامح وجهي يغلب عليها الحزن و"تقطع الخميرة من البيت" وتعتبر تغير مزاجي المفاجئ "نفسية شاعر" وأنني أفقد حس المرح والدعابة ولا أقدس الفرح والسعادة وأنني عاجزة كل العجز عن التخلص من معطف الكاتب الذي أرتديه، حاولت مرارا وتكرارا شرح موقفي وأن غياب الحزن في حياتي يعني غياب الإلهام، وأنها يجب أن تقلق على مستقبلي إذا ما قاطعتُ الحزن.

لكنها تباغتني بأسئلتها الوجودية: هل الحزن هو من يبعث الكتابة؟ أم أن الكتابة هي التي تبعث الحزن؟ لم يحدث أن توصلت إلى إجابة شافية، لكني بعد دقائق من التأمل أبدأ بطرح الأسئلة التي لا توصلني لشيء: كيف أفسر الحزن الذي يستوطن ذاتي والصمت الذي يرافقني كظلي؟ وما علاقة الحزن بالكتابة؟ وما الذي يجعل الكاتب إنسانا غير عادي؟

الحزن حالة من الغم والكآبة، هي حالة نفسية تصيب الإنسان، حالة قد تطول أو تقصر مدتها، وتختلف شدتها وحدتها من إنسان لآخر، والحزن حالة مرضية مؤقتة، يتعرض لها الإنسان نتيجة بعض المشاكل التي تواجهه في حياته، وقد تم التفريق بين الحزن والاكتئاب على أساس أن الأول مؤقت وأن الاكتئاب مرض نفسي تصاحبه بعض من الأعراض كفقدان الأمل واليأس.

غياب الإلهام وهروب الفكرة أو عدم قدرة الكاتب على الإمساك بها قد يدخله حالة من الكآبة قد يتغلب عليها ويعيد المحاولة أو ينصرف لفعل شيء آخر إلى حين عودة الإلهام في حين أن هناك من يشعر بعد فشله في الإمساك بالفكرة بالعجز والانتكاسة.

الحزن إذا ليست صفة مرضية، إنها حالة عادية تصيب الناس جميعا، لكن هنالك من يقدر على كتمانها ويجيد فن الاختباء خلف ابتسامة بلهاء، وهناك من يظهرها للعيان ويعلنها للجميع بلا حرج ولا خوف،" أنا حزين" فيحمل وجهه العابس معه أينما حل وارتحل، فتلتصق تلك الصفة به إلى الأبد. وفي المقابل هناك من يقدس الحزن ويعطي لكل ذي حزن حقه، وهناك من يكتفي بنظرات العطف وهناك من يرميك في خانة المثيرين للشفقة ويطبع على جبينك لقب الحزين المكتئب الذي يحتاج إلى علاج.

لكن الحزن الذي أود الحديث عنه هنا، هو حزن الكُتـاَّب، أو ميلانخوليا الكاتب، أو السوداوية التي عرفت قديما على أنها مرض عقلي، يحدث عنه اضطراب الوجدان والغم والحزن والقلق، في حين عرف في ميدان الكتابة والأدب على أنه تلذذ الكاتب بالحزن. الكتابة هي وسيلة للتعبير عن ما يخالج النفس من مشاعر وأحاسيس، هي متنفس الكاتب وملجأه وملاذه الوحيد حين تضيق به الدنيا وحين تتسع، هي وسيلته للنجاة وغايته في الحياة.

والكاتب كان وما زال يعاني من نظرة الناس إليه، حيث يعتبرونه إنسانا غير عادي وغير سوي، وينعتونه بالمجنون، لكنه في الحقيقة إنسان عادي نمت بداخله بذرة الإبداع وأثمرت حالة من الضياع، حيث تتوه منه نفسه وتضيع ذاته وسط زحام الكلمات والمفردات، هو إنسان لا يرى الأمور بالعين التي يرى بها باقي الناس، إذ يخلق من الجماد جمال ويرى في الهباء بهاء وفي السواد بياض وصفاء، ويرى أنه لكل حدث وحادث قصة، وكل ما يدور حوله يصلح لأن يكون موضوع كتابة، يرى أنه لكل حركة تفسير ولكل إشارة يد تأويل، تصوراته عميقة لكل ما هو سطحي، يرى الوجوه وكأنها ألواح من خشب وعلى كل لوحة رواية تناسب صاحبها.

كل الأحاديث والكلام الذي يقال وتلتقطه أذناه يسجله في مكان ما داخل ذاكرته ليكتبها فيما بعد، هو إنسان يرى في الصمت صخب، ووسط الصخب يعيش صمته وسكينته، يعيش حياة فوضوية، لكن كل القرارات التي يتخذها في حياته لا تتسم بالعشوائية، يرى خط الوصول من قبل الانطلاق، هو إنسان عيناه ترى ما خلف الجدران، وأذناه تسمع أصواتا من المستقبل، يرى أن الحياة عبارة عن إشارات يجب أن يكون على أهبة الاستعداد لالتقاطها، هو إنسان قد يكتب شعرا أو رواية بعد أن يسرح بخياله في كأس ماء على الطاولة، له طقوس مختلفة في كل شيء، خاصة عندما ينصرف إلى الكتابة، فهناك من يكتب أمام المرآة وهناك من لا يستطيع الكتابة إلا في ساعات الصباح الأولى، بل هناك من يكتب في الحمام وهناك من يكتب مرتديا البيجاما..

من الطبيعي أن يولد الإبداع من رحم الحزن والألم، فالحزن والكتابة صفتان متلازمتان، ويرجع البعض هذه الحالة التشاؤمية والسوداوية التي تطغى على الكاتب إلى جملة المآسي وتراكمات الحياة إذ يتبنى الكاتب فكرة" اللاجدوى" وعبثية الأشياء.

هناك من يكتب وسط الصخب وهناك من لا يكتب إلا إذا انعزل عن العالم، بل هناك أيضا من كان يبكي ويصرخ أثناء الكتابة كالكاتب الفرنسي فلوبير، هناك من يتهيأ إلى الكتابة ويرتدي أحسن ما عنده وكأنه ذاهب في موعد غرامي، وهناك من قد ينسحب من الاجتماعات ومن يعتذر عن الخروج ومن يغلق هاتفه في وجه المتصل إذا ما حضر الإلهام . فغياب الإلهام وهروب الفكرة أو عدم قدرته على الإمساك بها قد يدخله حالة من الكآبة قد يتغلب عليها ويعيد المحاولة أو ينصرف لفعل شيء آخر إلى حين عودة الإلهام في حين أن هناك من يشعر بعد فشله في الإمساك بالفكرة بالعجز والانتكاسة.

من المتفق عليه أن شخصية الكاتب تتسم باضطراب المزاج والقلق الدائم والخوف، لكن وإلى جانب كل هذا يجب التذكير بأنه لهذه الشخصية صفات جيدة فالكاتب متصالح مع ذاته إذ لا يرى عيبا في مصارحة نفسه بعيوبها والإشهار بها في كتاباته.

كل هذه الأمور لم يكن مخطط لذكرها في المقالة لكن الأفكار انسابت وتراصت أمامي بلا وعي مني، نعود إذا إلى علاقة الحزن بالكتابة، معروف أنه من رحم الألم يولد الأمل، فمن الطبيعي أن يولد الإبداع من رحم الحزن والألم، فالحزن والكتابة صفتان متلازمتان، ويرجع البعض هذه الحالة التشاؤمية والسوداوية التي تطغى على الكاتب إلى جملة المآسي وتراكمات الحياة إذ يتبنى الكاتب فكرة" اللاجدوى" وعبثية الأشياء، فيتخذ موقفا من الحياة ويصبح زاهدا فيها، فيفقد كل شيء حوله معناه وجدواه ويتساوى لديه الفرح بالحزن وتصبح الحياة مجرد مرحلة لن يستطيع تخطيها إلا عبر الكتابة أو الموت، فيرى أن الفرح والسعادة مجرد وهم وهذا راجع ربما لإدراكه لواقع الحياة ووجهها الحقيقي الذي تخفيه عن الآخرين"العاديين" وأن المستقبل مظلم ومخيف ويجب الحذر منه وهنا أستحضر ما قاله الشاعر الإيطالي ليوباردي "ان السعادة هي وهم ولا يمكن الوصول اليها وإدراكها ولا يوجد شيء في العالم يمكن تغيير الشقاء والبؤس"..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.